ـ(176)ـ
الكلام بالنسبة إلى مالا يتوقف على التوقيف.." فإن ظاهر جملته الأخيرة أن مراده من قصور العقل عن الاطلاع عليها ليس بسبب عجزه عن إدراك الحسن، والقبح إنّما لأن الأحكام الشرعية أحكام توقيفية من الشارع غير مربوطة بأحكام العقل...
وهذا الكلام لا ينفي عقلية الحسن والقبح إنّما ينفي تلازم أحكام الشارع معها لأن ثبوت هذه الأحكام مقيدة بصدورها من الشارع، وعلى هذا الأساس من الفهم يمكن حمل الأحكام العقلية التي رفض الأخباريون الاعتقاد بها على تلك الأحكام التي لا يتطابق عليها العقلاء بما هم عقلاء، أما هذه الأحكام أي التي يتطابق عليها العقلاء بما هم كذلك ومنها أحكام العقل بالتحسين، والتقبيح، فهي تحمل قيمة موضوعية. فقول المحدث الاسترابادي (قده):
"أن العلوم النظرية قسمان: قسم ينتهي إلى مادة قريبة من الإحساس، ومن هذا القسم علم الهندسة، والحساب وأكثر أبواب المنطق، وهذا القسم لا يقع فيه الخلاف بين العلماء، وقسم ينتهي إلى مادة بعيدة عن الإحساس، ومن هذا القسم الحكمة الإلهية والطبيعية وعلم الكلام وعلم أصول الفقه والمسائل النظرية الفقهية.. ومن ثم وقعت الاختلافات والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهية والطبيعية وبين علماء الإسلام في أصول الفقه وعلم الكلام".
فأنه يمكن درج مسألة التحسين والتقبيح بناء على أنها تطابق العقلاء بل، وكذلك بناء على أنها حقائق خارجية في قسمه الأول الذي لا يقع فيه الاختلاف لأن ذلك التطابق، أو ذلك الإدراك لهذه القضايا لا يحصل إلاّ في القضايا الواضحة التي توازي في وضوحها قضايا الرياضيات، والهندسة، أو قريباً منها، ولو بعد التأديب عليها ولا تدخل في القسم الثاني الذي تكون مواده بعيدة عن إدراك العقل.
وقول المحدث الجزائري: "... فإن قلنا عزلت العقل عن الحكم في الأصول والفروع فهل يبقى لـه حكم في مسألة من المسائل ؟ قلت: أما البديهيات فهي لـه وحده وهو الحاكم فيها" فإنه يمكن درج مسالة التحسين والتقبيح تحت هذه البديهيات أو ما في حكمها لأن الحكم بالحسن والقبح إنّما يحصل بعد تطابق العقلاء، وهو لا يحصل إلاّ في القضايا بعد التأديب عليها، أو يحصل التطابق عليها