ـ(47)ـ
من السهل أن نستخلص الأبعاد السياسية والاجتماعية لموقف ابن المعلم من الإرادة الإنسانية، والاستطاعة، فضلاً عن فهمه للعدل الإلهي، ومحاربته لمذهب الجبرية.
لقد تبنت الدولة الأموية والعباسية ـ مع استثناء محدود ـ مذهب الجبرية.
فالأمويون أرادوا أن يقولوا للناس من خلاله: إنّ ما حدث في "الجمل" و"صفين" وما تبع ذلك من استيلائهم على الحكم بغير وجه شرعي إنّما هو أمر مراد من الله، مقرر في اللوح المحفوظ، والله هو فاعله. وبالتالي فإن كلّ اعتراض عليه، أو محاولة للثورة والتغيير هي اعتراض على إرادة الله وفعله! وإذا كان الإنسان "المواطن" مجبراً فهو مسلوب القدرة والإرادة، ولا ينبغي لـه أن يغير شيئاً؛ لأن الله هو الذي يغير ما يشاء وبهذه الفلسفة أراد الحكام أن يقنعوا المواطنين بأنهم أعجز ما يكون عن الفعل والتغيير؛ ليسلبوهم حقهم في الثورة على مظالمهم، فيسيطروا بهذا عليهم.
وبناء على فلسفة الجبر التي تبنتها الدولة صار وقوع الأشياء بغير حاجة إلى أسباب، فالله يفعل ما يشاء، متى شاء، وكيف شاء وليس لنا أن نسأل: لم اغتنى فلان ؟ فالله يرزق من يشاء بغير حساب، ولا، لم وقع هذا الفساد في الإدارة والمال ؟ لأن ما وقع قد وقع بإرادة الله وفعله، وقد يكون عقاباً أو مقدمة لخير لا نعلمه، وهكذا أفقدوا المواطن حقه في الرقابة على موظفي الدولة، من خلال تصويرهم لأحداث الكون وكأنها وليدة الإرادة الإلهية المستعصية على الفهم، وليست وليد نظام من الأسباب الممكن إدراكها بالعلم. وبهذا سيطرت اللاعقلانية على الفكر العربي الإسلامي، وتلاشت معها كلّ إمكانية لتبني التخطيط، أو العمل على التنمية والتقدم. وأكثر من هذا صار بعض المفكرين ينظروا للاعقلانية والجبرية، ويسوغ التخلف والارتجالية، فليس في الإمكان أبدع مما هو كائن. والتفاوت الطبقي، ومفاسد الحكام كلها مرادة من الله. وتفسر هذه الحقائق توالي الحركات والفرق الممثلة لمذهب الجبرية، وفي قمتها: الحركة الأشعرية التي تبنى السلاطين فكرها، وبثوه عبر المدارس النظامية، مثلما تبنى السلاطين المماليك من بعد الحركات الصوفية. فهذه كلها مهدئات توفرها السلطة للشعوب لتبقيها مخدرة، بعيدة عن التفكير بالثورة عليها.