ـ(115)ـ
والفرق يبين العلم والثقافة: أن العلم عام لكل أمة، فهو ليس حكراً على أمة من الأمم، أو مختصاً بأناس دون أناس، فهو للناس كافة، تأخذه أمة عن أمة فالاختراعات العلمية والاكتشافات في الصناعة والأسلحة، والأبحاث العلمية تنقل من بلد إلى آخر، ومن أمة إلى أخرى، فإذا أخضع هذا العلم لوجهة نظر معينة أو لمصلحة أمة أو دولة أصبح ثقافة خاصة لتلك الدولة أو الأمة، لكن الثقافة تبقى خاصة، فلكل أمة أو شعب ثقافته التي يعتزّ بها؛ لأنها متصلة بوجهة نظره في الحياة، ولهذا نرى: أن الجامعات تفتح أبوابها لدراسة العلوم لكل الناس، لكنها تحاول أن تعطيهم ثقافتها الخاصة، فللمسلم ثقافته الإسلاميّة، وللإنجليزي ثقافته، ومثلهما الفرنسي والألماني والروسي وغيرهم، ومن هنا نجد حرص الدول المختلفة على نشر ثقافتها وفتح المعاهد والمراكز الخاصة بها.
وعلى هذا، فالثقافة الإسلاميّة ثقافة خاصة، متميزة المعالم والاتجاهات،فهي المعرفة التي تتضمن العقيدة الإسلاميّة مثل: علم التوحيد، والمبنية على العقيدة مثل: الفقه والتفسير وعلم الحديث والسيرة وأصول الفقه، والمعرفة التي يوجبها الاجتهاد في الإسلام مثل: علوم اللغة العربية.
وقد أحدث عدم التفريق بين العلم والثقافة والحضارة بلبلة في عقول المسلمين، إذ تعددت ثقافاتهم كلّ بحسب ما تلقى في البلدان غير الإسلاميّة.
وكما أدى التباس فهم العلم والثقافة لدى المسلمين اليوم ـ فلم يعرفوا ما يأخذون وما يدعون ـ أدى عدم فهمهم للحضارة والمدنية الناشئة عنها. أو المدنية الناشئة عن العلم والصناعة إلى اضطراب حياتهم، وفوضى مسالكهم إذا انطلقوا في تقليد الغرب وحضارته والاقتباس عنه دون تفريق بين غث ما عنده وسمينه، وبين ما يؤثمهم أو يؤجرهم؛ لأن الحضارة هي مجموع مفاهيم الإنسان عن الحياة، وهي التي تعين طريقته في الحياة؛ ولأن المدنية هي الأشكال المادية المحسوسة التي تستعمل في شؤون الحياة.
والحضارة والثقافة لا تكونان إلاّ خاصتين، والمدنية تكون خاصة وعامة، خاصة إذا كانت ناتجة عن حضارة، وعامة إذا كانت ناتجة عن علم وصناعة؛ لأن العلم والصناعة عالميان. وبحسب رقي الحضارة تكون المدنية الناتجة عنها راقية، وبحسب رقي العلم والصناعة تكون المدنية الناتجة عنهما راقية. أما إذا انحطت الحضارة وضعف العلم كانت المدنية الناتجة عنهما متأخرة.