ـ(130)ـ
ومن المعلوم: أنّ أوروبا عاشت صراعاً حاداً وقوياً في القرون الأربعة الأخيرة، استلزم فيها أنّ تنبذ كل ارتباط مع الدين..، ودفعها أنّ تسير في تنظيم شؤون حياتها على أساس فصل الدين عن الدولة، معتبرة ذلك هو الحل الوحيد الذي يقيها المعضلات والمآسي التي كانت تعاني منها. والاقتناع بهذه النظرية أصبح يعكس مفعوله على بعض المثقفين من المسلمين ثقافة غربية.
والواقع أنّ أخطر ما يعانيه العالم الإسلامي اليوم هو: الانعكاسات التي ترد عليه من الغرب المسيحي، والتي تعمل جاهدة على أنّ تبث روحها فيه، فتجتث كل ارتباط بينه وبين أصالته ودينه.
إنّ هناك صراعاً حقيقياً وعميقاً بين حضارتين: حضارة غربية تريد أنّ تفرض نفوذها وسيطرتها الشاملة في العالم الإسلامي، وحضارة إسلامية عريقة وأصيلة تريد أنّ تحتفظ بشخصيتها ومفاهيهمها وتأثيراتها. فإذا كانت الحضارة تريد أنّ تقطع علاقتها مع كل أصيل فإن الحضارة الإسلاميّة لا تقبل أنّ تنصاع لهذه القطيعة؛ لأنها تنشد الكمال والتقدم، والاستفادة من التطور العلمي، وتريد أنّ تبقى مرتبطة كل الارتباط بمفاهيمها وفي حلبة هذا الصراع يعيش العالم الإسلامي فالمفكرون المسلمون الواعون لمسؤولياتهم يدركون الأخطار التي تهدد مصير أمتهم الإسلاميّة، ومصير حضارتهم وقيمهم إنّ هم انساقوا مع هذه التيارات الدخيلة عليهم...، وهم يدعون إلى النهوض والأخذ بالأسباب الحقيقية لهذا لنهوض، والاستفادة مما أعطته وتعطيه الحضارة الغربية من ابتكارات وتقدم في ميدان العلم والتكنولوجيا وما إلى ذلك، ولكنهم في الوقت نفسه لا يقبلون أنّ يتنكروا لذاتيتهم وشخصيتهم وحقيقتهم، ويعتبرون أنّ التنكر لذلك قضاء على وجودهم، ومحو لشخصيتهم، وخسران لمستقبلهم.
إنّ المفكرين المسلمين يدركون أنهم مطالبون بالذود عن حقائق دينهم والاستمداد منها، والاستمرار في الارتباط بها مثل ماهم مطالبون بالتفتح للاستفادة من النظريات العلمية، واستعمال طاقاتهم وإمكانياتهم للدفع بها وتجديدها والتقدم فيها؛ لأنهم يعتقدون أنّ المسلم الحق لا يقبل أنّ تسبقه الأحداث وتتجاوزه الحياة، كما لا يليق به أنّ يبقى في مؤخرة الركب الحضاري؛ لأنه مطالب ـ باعتباره مسلماً ـ بأن يمد الحياة الإنسانية، ويسير في الآفاق؛ ليستفيد ويفيد، وليزيد في سعادة بني الإنسان بابتكاراته