ـ(163)ـ
إنّ المركزية الغربية لم تولد فجأة في عصر الاستعمار وهيمنة الإنسان الاوروبي على العالم الآخر، وإنّما تعود البداية التأسيسية لهذا الموقف الذي تشكل نمط الوعي الغربي نحو الآخر طبقاً لـه إلى الحضارة اليونانية، فمثلاً: كان يعتقد الفيلسوف "سقراط" في أثينا القديمة بضرورة قيام الغرب مهمة "تمدينية" للشعوب المتخلفة.
وفي ضوء نمط الوعي هذا توالت الغارات المقدونية، والهيلنسية، والرومانية، حتّى الحروب الصليبية، من أجل صياغة التمدن في الشرق؛ لأن المدنية سمة الإنسان الغربي.
أما الشرق وتراثه الحضاري النبوي العريق فقد جرى تشويه صورته في وعي هذا الإنسان بتحويله إلى عقل إسطوري، وفكر متوحش، وروح سلبية، و... الخ.
وقد بلغ الأمر بالجماعات الأكاديمية والفكرية والدينية في الغرب أنها كانت تتداول في مناظراتها بجد واحتداد واضحين مسألة ما إذا كان غير الأوروبيين والأفارقة على وجه الخصوص قابلين للتمدن أصلاً، وقد ساهم في هذه المداولات من قبل: بلومنباخ، ولورنس، ولامارك، وعلى وجه الخصوص جورج كوفيه(1).
ولم يتوقف هذا التنظير الذي تولاه بعض مفكري الغرب عند تكوين وعي زائف بحقيقة الإنتاج الحضاري للمجتمعات غير الاوروبية، بل تعداه إلى خلق موقف عدائي انتقامي إزاء تلك المجتمعات، وبروز نزعة عدوانية تدميرية تجاه معارفها ومنتجاتها وتراثها، حيث أودت هذه النزعة بحياة مجتمعات عديدة، وأحرقت تراثها، وانتهت إلى إبادتها.
ففي أمريكا ـ مثلاً ـ كانت تعيش أربع حضارات، بلغ مجموع سكانها مائة مليون نسمة، دمرها الأوربيون خلال قرن واحد، حتّى أنّه لم ينج من الذبح سوى عشرة ملايين، فيما أهلك الغزو (90[) من أهل البلاد الأصليين، وبذلك بادت حضارة
_________________________________
1 ـ نفس المصدر، ص 85 و91، عن فيليب، د. كورتن. صورة أفريقيا. مطبعة جامعة وسكسن، 1964 م، ص 230.