/ صفحه 186/
ولكن المهاجرين إلى الحبشة لهم مع هذا فضل الصبر على الاغتراب في سبيل الدين، وعلى طول المكث في تلك البلاد النائية، وهم بعيدون عن أهلهم ووطنهم وأموالهم، فلا يجدون من يأنسون إليه من أهلهم، ولا يجدون الأموال اللازمة لحسن عيشهم، فليكن للهجرة إلى المدينة فضلها على الهجرة إلى الحبشة، ولكن الهجرة إلى الحبشة لها فضل أيضاً، ولا يصح أن يغفله المفسرون إلى الحد الذي يحملون فيه كل ما ورد في القرآن من الكلام عن الهجرة والمهاجرين على الهجرة إلى المدينة، ولو كان هذا في السور المكية التي نزلت قبل شرع الهجرة إلى المدينة، كأن الهجرة إلى الحبشة شىء لا يُؤْبَه له في الإسلام، ولا ينبغي أن يذكر في القرآن الكريم كما ذكرت فيه الهجرة إلى المدينة، وقد نزل تبياناً لكل شىء، حتى أن بعض الناس يحاول أن يجد فيه كل صغيرة وكبيرة من الأمور، فما ظنك بالهجرة إلى الحبشة، وقد قامت قريش لها وقعدت، حتى بعثت وفداً إلى نجاشيَّ الحبشة ليردَّ إليها من هاجر إليه من المسلمين، لتستمر في فتنتها لهم عن دينهم.
ومن السور التي ورد فيها ذكر الهجرة والمهاجرين سورة النحل.
وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ورواه ابن مروديه عن ابن عباس وغيره، وأخرج النحاس من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: سورة النحل نزلت بمكة سوى آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من أُحُد، قيل وهي وقوله: (وإنْ عاقبتم فعاقُبوا بمثل ما عوقبتُمْ بهِ) الآية، وقوله: (واصبرْ وما صبرُك إلا بالله) في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد، وقوله: (ثم إنّ ربكَ للذينَ هاجرُوا) الآية، وقيل الثالثة (ولا تشترُوا بعهدِ الله ثمناً قليلاً) إلى قوله: (بأحسنِ ما كانُوا يعملون) وحكي الأصم عن بعضهم أنها كلها مدنية، وقال آخرون: من أولها إلى قوله: (كُنْ فيكونُ) مدني، وما سواه فمكي،وعن قتادة بالعكس.