/صفحة 76/
ولم تكن شيخوخته المحملة بالاثقال الجسام الا شابة العقل، فتية الهمة، لا تضعفها السن عن الغوص والتحليق، ولا تلهيها مسئولياته العامة المعقدة عن ميدان الفكر كما لو تخصص له وانفرد به، فقد كان مجلسه هذا بين الكتب في آخر أيامه هو مجلسه للناس يقضى فيهم، ويحل مشكلاتهم، بالمعهودة من بشره وبشاشته ودقة موازينه، فاذا فرغ من حاجات المراجعين عاد إلى موضوعه فتابع خطواته من حيث أوقفها، وما أكثر ما يوقفها في غير موقف، كانت ذاكرته غاية في ضبط الاختزان ودقة التسجيل.
2 ـ كثيراً ما كان ـ نضر الله وجهه ـ يأمرني بمناقشة ما يجهز من آثاره، ولعله كان يبعثني بهذه المشاركة على الفهم، ويدفعني إلى التركيز الذهني، ولم يكن يبخل على بالتشجيع اذا أنس بي حسن الالتفات، أو سلامة النظر.
قال لي مرة ـ وهذا الجزء من الكتاب موشك على التمام ـ: "ستكون مقدمة هذا الكتاب بقلمك يا بني، اني أحب أن تضعه في اطاره من سلامة القصد وخدمة الفكر، فان محركات البحث الحقيقية في هذا المضمار قد تخفى على كثير من القراء، وقد يحورها كثير من ذوى الاغراض فيرسلوها في المدار الخطر على وحدة الامة وألفة قلوبها".
ثم أعاد أمري بوضع المقدمة المطلوبة مرات عديدة بعد هذا القول، حتى هممت بالامر، فتأملت الموضوع، ورسمت تصميمه، ولخصت مضمونه ذات أمسية بشرح شفهي أرضي أبى يوم ذاك وأعجبه، ثم حيل بيني وبين المقدمة بخطوب وأرزاء كان آلمها فجيعتنا بفقده أثناء محنهة لم يبق في لبنان شبر لم يثخن به فسادها، اذ تعرضت البلاد لأزمات في الأخلاق والاقتصاد والسياسة لا يعرف التاريخ نظيرها في السوء والشر، ولا يهمنا من أمر هذا الفساد في هذا الصدد الا ما يظهر فداحة الخسارة بفقد المؤلف في ضوء اشتداد الحاجة إلى أمثاله من الزعماء والقادة الحقيقيين. الزعماء الذين تتجه اليهم الآمال والقلوب أيام الفزع.
3 ـ وبعد أعوام ثلاثة خرجت من السجن فلم أجد أبي وا حسرتاه، ولكني وجدت الكتاب مطبوعا يتقدمه بحث غني أصيل بقلم العلامة السيد محمد تقي الحكيم،