/صفحة 429/
مسكر نجس). وعند التأمل يظهر أن نجاسة المسكر ليست غير رمز لظرره مشروباً، وعائق دون شربه فقط، في زمن لم يكن أهله يعرفون سبب; لوجود الكحول غير السكر والعربدة في أغلب الحالات، والشفاء في حالات مرضية نادرة تحلل شربها. ثم تطور الزمن وتقدمت المعرفة فظهر أن الكحول يمكن الاستفادة منها لأشياء غير التلذذ بأضرارها المخدرة، تستعمل للنظافة والتعقيم ـ مثلا ـ وتطييب الرائحة، فما معنى نجاستها الخارجية؟ تحريم شربها معلل باعتبار صحى، فلماذا لا يرفع النجاسة عن استعمالها الخارجى أعتبار صحى أيضاً. القياس في منصوص العلة حجة بإجماع الآراء.
لتكن الكولونيا محرمة الشرب، طاهرة في الاستعمال الخارجى للتطييب والتعقيم وأمثالهما من الحالات.
ومن أجل الاطمئنان إلى الاندماج بحكمة التشريع وغرض الشارع أرجع إلى اجمع بين النصوص في هذا الموضوع وفي موضوع آخر ليظهر لك الصواب في ضوء الوحد العامة. إن الجمع بين الأخبار هو اختبار الخطوط المتفرقة، للتأكد من ترابطها بالروح العامة، وتلاقيها بالقدر المشترك، وتعاونها بأداء الوضائف المختلفة للتعبير عما به تتوحد.
الأناقة وجمال المظهر من السلوك المدنى فرع لم يهمله الإسلام، عرض منه للنظافة والتطيب. قال النبى: النظافة من الإيمان، وفصّل هذا الإجمال بعد تثبيته في شروط الأركان بالوضوء والغسل، فقال مما قال في شرحها بأعمالها وتفاصيلها، : "لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك" ـ تنظيف الأسنان ـ وقال: "حبب إلى من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء، وقرة عينى الصلاة".
قف قليلا إلى (الطيب). الرائحة الشذية تستوقف الذوق السليم وتستهويه، لاحظ! أنه قدم الطيب، ألا تجد في هذا الأمر ما يدعو إلى أختيار الروح العامة التي تربطه بأوامر الكحول؟ هل يخلو (الطيب) من مادة الكحول: المادة التي نجسها واستقذرها مبخرة مستقطرة خمرا؟ كيف عاد فأحبها وأوصى بحبها مبخرة مستقطرة عطرا؟
هل كان يجهل وجود الكحول في روح العطر ومادته؟
هل أوقعه الجهل بالتناقض؟. لا ـ وحاشاه ـ إن وضع النجاسة الظاهرة قيداً على الخمر المحرمة خاصة، أما الحكول المطيبة المعقمة فإنها طيبة طاهرة أحبها وأوصى بها. هذا هو معطى الجمع بين الأخبار.
هذا نموذج من التفكير الإسلامي الحر المذهب. ولكل حادثة جديدة قصة كقصة الكولونيا تنتهى بحل جديد لو ذابت الثلوج عن قمم هذا الاختصاص المسكين.