/صفحة 350/
وتلقى عند كلّ أحسن القبول حتى ولو تكلمت عن طوائف وعقائد لا وجود لها على سطح البيسطة، كما في كتاب "الملل والنحل" الذي يبدو لقارئه في بعض الأحيان كأنه يتكلم عن خلق آخرين في الكواكب الأخرى.
وفي الجملة; كان يسود الفريقين جوّ من الطلام، فلا يرى أحدهما من صورة الآخر إلا شبحاً تحوطه الظلمة، ولا يتكلم عنه إلا بما توحى به الظلمه، ولا يقرأ عنه إلا ما تسمح به حلكة الظلام.
فإذا ألف أحد من أبناء الفريقين كتابا، فهو لا يعرض إلا آراء مذهبه، ولا يدافع إلا عنها، ولا يسير إلا إليها، وإذا طلب الأمر اشارة إلى ما في غير مذهبه، فلا تكون اشارته إلا طعنا واتهاما، وإلا ترديدا لما سمعه أو قرأه أو ورثه عن آبائه!
وبذلك كبروا الخلافات وضخموها، ورددوا الشكوك وأسفّوا فيها; حتى أصبح كل معنى يؤيد الوحدة يفسّر في ظل الشكوك بما يوجب الفرقة. بل وصل الأمر إلى التشكك في وحدة المصحف، وشك كثير من أهل السنة في أن يكون مصحف الشيعة هو المصحف إلى في أيدى سائر المسلمين، ومع ذلك لم يكلف أحدهم نفسه مئونة التقليب في نسخة من ملايين النسخ التي في متناول يده، ولو انهم فعلوا، لذهب الشك ولحلت المشكلة، ولكنهم حكموا على الموجود المحسوس بما ليس فيه اعتمادا على قول مؤلف مغرض مات قبل قرون!.
إن هناك قصة تروى لست أدرى إن كانت واقعية أم صنعها الخيال:
لقد رووا أن قاضيا في إحدى البلاد رأى يوما نفرا يمسكون بتلابيب رجل ويجرونه إليه ويقولون: هذا الرجل يكذب المؤمنين العدول. فقد شهد شاهدان عدلان بوفاته منذ سنين. ثم هو يظهر بين ظهرانينا وهو بوجوده هذا يقذف في عدالة الشهود!. . .
فما كان من القاضى "الألمعى" إلا أن قال: كيف نصدق أنك حى، ونكذب شاهدين عدلين شهدا بموتك من قبل؟! وحكم بعدم وجوده.