/صفحة 159/
الشعراء المقدمين، فهناك المرانة والدربة، تشحذان الفطرة، وتجلوان جوهرها، وتكشفان عن مزاياها الكامنه. وهناك اللغة، أو قوالب التعبير التي يصب فيها الشاعر خواطره، ويودعها مواجد نفسه، لابد من الإكباب عليها والتضلع منها، حتى تتسع روايته، وتغزر مادته، فلا يضيق بمعنى، ولا يعبأ بوزن ولا قافية. وهو بلا شك عمل ليس بالهين، والطريق إليه غير قاصدة، ولكن لابد منه مع ذلك لكل شاعر يريد أن يكون شعره عن نضج واكتمال، لا عن فجاجة وابتسار.
فإن كانوا يريدون المجد الصحيح، والشهرة من طريقها القويم، فدونهم اللغة، فليتزودوا منها بأقصى ما يستطيعون. فاللغة هي التي مكنت لأبى العلاء أن ينظم فلسفته العميقة، وأن يلتزم في نظمها مالا يلزم من قيود القافية، وهي التي مكنت لشعراء البديع أن يأتوا في شعرهم بآيات منه بينات، يكاد يضيق بها النثر بله الشعر.
لقد اقتضت مطالب التعبير باللفظ أن يصطنع الناس كلٌّ من لغته نوعين من الكلام: نوع عام، لا تكاد تختلف الجمهرة في جوهره ومادته، وإن اختلفت في طريقة أدائه وخصائص هيئته، تديره بينها في حاجات السوق، ومطالب العيش واليسيرة، غير محتفلة به، ولا متأنقة فيه، وذلك هو ما يسمى بلغة التفاهم والخطاب. ونوع خاص لا يطيقه إلا ذو حظ مقسوم من الثقافة والمواهب الفنية، ويصطنعه الناس في الشؤون الجليلة، والمقاصد الجامعة: من نحو دعوة خيرة، أو حكمة بارعة، أو تجربة صادقة، أو وصية نافعة، أو أدب رفيع، لا يقتصرون فيه على فيض الخاطر وإسماح الطبع، ولكن يضيفون إليه، ويأخذون فيه بالأناة والتصنيع، وزخرف الافتنان، ليكون للقلب والذوق منه غذاء ومتاع. وذلك ما يسمى بالنثر الفني.
واشتق الناس من هذا النوع نوعا ثالثا، أسمى منالا، وأجمل جمالا، يتجهون به أكثر ما يتجهون إلى مواجد القلب وأشواق النفس، ويصطفونه أكثر ما يصطفونه، في تصوير الإحساس بالحياة والأشياء، كما يتلقونه، وينفعلون له في أمانة وصدق، لا يقتصرون في تزيينه والإمتاع به على جمال الفن، ولكن يضيفون إليه وحدة الموسيقي، ووحدة