/صفحة 116/
ويقابل هذا الصنف من الخلق صنف آخر تراه متوجهاً أبداً إلى غايته كالسهم المنطلق، لا يعرج يميناً ولا شمالاً، أو كالماء المنصب من عل ينهمل انهمالا، اذا صادفته عقبة اكتسحها، فان لم يقدر عليها، سال من حواليهان يجرى بأمر الله على قدر، ويحتفظ بصفاء جوهره وان اعتكر.
وأولئك هم البناة الكادحون، نفوسهم كبيرة، وآمالهم عظيمة، وآفاقهم فسيحة، وجهودهم أكرم عليهم من أن يضيعوها هباء، وأوقاتهم أعز لديهم من أن يتركوها خلاء، والحياة في نظرهم ليست وجوداً جسمياً، أو مروراً وقتياً، وانما هي الوجود، الذي ينتهى إلى الخلود.
* * *
هذان صنفان متقابلان جرت بهما سنة الله في خلقه تحقيقاً للابتداء، وميزاً للخبث من الطيب، وتوجيها لأولى البصائر إلى مشاهد النضال بين الحق والباطل، والخير والشر، والصلاح والفساد، حتى يؤمنوا عن تجربة وعيان وتمحيص.
وفي القرآن الكريم اجمال وتفصيل لهذا الناموس الكوني الالهي، حيث يقول الله عزوجل: "و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين" وحيث يقول تباركت أسماؤه، تسلية لحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وآله وسلم:
"و ما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الا اذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان، ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم، ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، وان الظالمين لفي شقاق بعيد، وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وان الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم".
محمد محمد المدني