/صفحة 100/
والسياسية معاً، وهذه الهجرة إلى أرض الحبشة إنّما تحقق الحرية الدينية، ولا تحقق الحرية السياسية، وكانت الحبشة في ذلك الوقت تدين بالنصرانية، وكان لها ملك يسمى النجاشي، فكان من هاجر إليه من المسلمين يعيش في حكمه، وان كان يتمتع فيه بحريته الدينية، فلم يرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه أن يعيش في هذا الحكم، لأنه يريد حكماً خالصاً للمسلمين، يكون فيه هو الرئيس الأعلى لهم، ويكون المسلمون تابعين له وحده لا لغيره، على أن من هاجر من المسلمين إلى أرض الحبشة كان يكتفى بينهم بدينه، ولا يفكر في دعوة أحد من أهل الحبشة إليه، لئلا يثير عداء منهم لهم، وما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليرضى لنفسه في أرض الحبشة بذلك، لأنه مأمور بتبليغ رسالته لهم ولغيرهم، ولهذا كان يبغى لنفسه وللمسلمين الحرية الدينية والسياسية معا، ليقوم بتبليغ رسالته في ظل حكم اسلامي خالص، ولا يكون تابعا سياسيا لحكم أجنبي لا يرتاح لتبليغ رسالته.
ولم يمكث أولئك المهاجرون بالحبشة الا ثلاثة أشهر، ثم رجعوا منها إلى مكة بعدها، لأنهم لم تتيسر لهم الاقامة فيها، وقد ساءت قريشاً هجرتهم، فمانعت في دخولهم مكة بعد رجوعهم، ولم يتمكن من الدخول اليها الا من وجد له مجيراً من أشرافها، لأنها عدت هجرتهم خيانة لها، وطعنا في حكمها، فأخرجتهم من جنسيتها، كما تخرج الحكومات الآن من جنسيتها من يخرج عليهان ويفر من حكمها إلى بلاد أخرى، فلا يكون لهم حق الاقامة ثانيا في بلادها، الا اذا عفت عنهم بوسيلة تراها.
ثم كان أن اشتدت قريش في أمر المسلمين، وأجمعت على منابذة بني هاشم وبني المطلب ولدي عبد مناف واخراجهم من مكة، فانحازوا إلى شعب أبي طالب مسلمهم وكافرهم، ما عدا أبا لهب لأنه كان مع قريش، وانخذل عنهم بنو عميهم عبد شمس ونوفل ابني عبد مناف، فجهدوا في ذلك الشعب حتى كانوا يأكلون أوراق الشجر، لأن قريشا قاطعتهم مقاطعة تامة.
وهنا رأي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمر جميع المسلمين أن يهاجروا ثانيا للحبشة، حتى يساعد بعضهم بعضا على الاغتراب، ولعله يخفف بذلك شيئا من