/ صفحه 343 /
العبادات وصورها ـ في الجملة ـ وأصول المعاملات، ونحو ذلك. فكان هذا كله رحمة من الله وحكمة، لأنه وقى الناس شر التفرق في الأسس والأصول، ورسم لهم دائرة محدودة واضحة المعالم، يعرف من دخلها ومن خرج منها؛ وألحق بها ما هو في حكمها من رسوم العبادة التي لا يرجع فيها إلا إلى ما يريده المعبود، ومن دعائم المعاملة التي يجب في كل زمان ومكان أن تكون مرتكزة على أساس سليم من العدل والخلق الكريم.
أما الفروع التي لا يضر الاختلاف فيها، سواء أكانت في الشئون العملية أم في المسائل النظرية فلم يكن يصلح أمر الناس على توحيدها والإلزام بصورة معينة منها، ذلك بأن الله خلق العقول وجعل لها مجال النظر والتفكير والموازنة والترجيح والاستقراء والتتبع، ولذلك جاءت أكثر أحكام الفقه ظنية، وكثر فيها الاختلاف والترجيح، وأصبحنا نرى في كثير من المسائل الخلافية آراء الفقهاء التي تمثل جميع الصور المحتملة عقلا.
وأمر آخر هو أن التصرفات التي تقع من الناس والقضايا التي تحدث فيهم لا تنتهي ولا تقف عند حد، فكلما جاء جيل من الناس جاءت معه أحداثه وتصرفاته وألوان نشاطه. وإذا كان من قصد الشريعة أن تنص على كل حكم من لدن جاء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن تقوم الساعة، لما وسع الناس أن يحفظوها، لاسيما وقد نزلت على قوم أميين، في جزيرة صغيرة محدودة الأحداث، وفي زمان أقرب إلى البدائية الأولى، لم يكن العلم فيه قد تقدم كعهدنا به اليوم، ولم تكن المذاهب الاجتماعية والاقتصادية قد ظهرت وتعددت صورها؛ فلم يبق إلا أن تضمن الأدلة والمصادر المحدودة للشريعة ما يمكن العقول من الاستنباط منها كلما دعا إلى ذلك داع، ولذلك وجدت فيها المبادئ العامة والأصول التي يرجع اليها، وكان منها ما هو قطعي دائم، ككون الشريعة يسراً لا عسراً، وكون المعاملات مبنية على رعاية المصالح ومجانبة الضرر والضرار، ووجوب حفظ المال والنفس والعرض والعقل والدين وغير ذلك من الكليات التي ترجع اليها الفروع والأحكام.