/ صفحه 320/
وبعد هذا نعود إلى توجيه اجتهاده (صلى الله عليه وآله وسلم) في ترك تأبير النخل، وهو من أمور الدنيا التي أجمعوا على جواز اجتهاد فيها على ما حكاه ابن حزم، وجواز اجتهاده فيها يتبعه جواز الخطأ في اجتهاده فيها أيضا، ولكن اجتهاده فيها يجب أن يكون اجتهاداً بمعنى الكلمة على كل حال، ولا يصح أن يطلق الحكم فيه جزافا من غير اعتماد على وجهة نظر، فماذا كانت وجهة نظره (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أفتى قوما بترك تأبير نخلهم.
وهذا سؤال جديد في هذا الموضوع لم يتلفت أحد إليه فيما أعلم، وسيكون الجواب عليه من اجتهادي فيه، وإني أدعو الله تعالى أن يهديني إلى جوابه كما هداني إليه، فكل شئ بأمره وإرادته، وإذا كان الجواب بتوفيقه وجهه نحو الصواب بحكمته، وها أنذا أشرع فيه مستعيناً بتوفيقه تعالى، فأقول:
إن المشهور في رواية ذلك الحديث ما سبق من أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مر على قوم يؤبرون نخلهم فقال لهم: " لو تركتموه لصلح " فتركوه ففسد، فذهبوا إليه وأخبروه بما حصل لنخلهم، فقال لهم: " أنتم أعلم بأمور دنياكم " وهذه الرواية المشهورة تفيد أن هؤلاء القوم تركوا تأبير نخلهم فعلا بإشارده لهم، ولكن الشوكاني ذكر في كتابه إرشاد الفحول إلى تحيق الحق من علم الأصول ـ ص 238 مطبعة السعادة ـ ما يفيد أنه كان عزما لم يقع فعلا، إذ مثل لاجتهاده (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمور الدنيا بم وقع منه من إرادته أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة في غزوة الأحزاب، وكذلك ما كان قد عزم عليه من ترك تلقيح ثمار المدينة. فمثارها إنما كانت النخيل كما هو مشهور، وحينئذ نكون أمام روايتين في موضوع ذلك الحديث: رواية تفيد أن ترك التأبير حصل فعلا من قوم في المدينة ففسد به نخلهم. ورواية تفيد أنه لم يصحل فعلا، وإنما كان هناك عزم على ترك تلقيح ثمار المدينة كلها، ومن اختلاف تينك الروايتين يجيئ تنزيل الحديث على وجه لا يكون حكمه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه جزافاً.
فإن تأبير النخل كان ولا يزال يحصل بطريقة بدائيه، يصعد فيها الرجل إلى طلع