/ صفحه 240/
إن هذا اللون من المتابعة ومن النشاط العقلي، أو المراقبة العلمية العقلية لفن من الفنون، ما كان منه، وما جد فيه، وما يمكن أن يضاف إليه؛ هو السمة الأولى التي يتسم بها العالم المخلص المحب لما يدرس، الذي يؤمن بالعلم، ويعرف أن بابه لم يقفل، وأنه ليس لأحد أن يزعم أنه قال في شيء منه الكلمة الأخيرة، فهو يتابع " السوق العلمية " إن صح هذا التمثيل، ويراقبها مراقبة الهواة الذين يحرصون على اقتناء الطرف والتحف، ونحن نجد هذا الخلق العلمي في عصرنا الحاضر هو الذروة التي وصل إليها علماء الاختراع والكشف، فإن من تقاليد العلم المقدسة أن تراقب الدراسات، وتعرف التطورات، وأن يتجه النظر إلى جديد يعرف، لا أن يتجمد تجاه ما عرف.
إن هذا السلوك العلمي الرفيع هو الذي يوحى به القرآن الكريم، فإن الله تعالى يقول: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " ويأمر رسوله بأن يستزيده من العلم، ويجعله من أعز آماله التي يتوجه فيها بالدعاء إلى ربه فيقول: " وقل رب زدني علما " فإذا كان الإنسان مهما أوتى من العلم لم يؤت إلا قليلا منه؛ وإذا كان المثل الأعلى للبشرية الكاملة، وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) محتاجا إلى أن يستزيد ربه علم ما لم يعلم، فما بالنا بالإنسان المحدود علماً وعقلا، أليس من واجبه أن يتطلع دائماً إلى كل أفق ليعلم ما لم يكن يعلم.
ولذلك طربت وأخذتني روعة لصنيع هذا العالم الشيعي الامامي، حيث لم يكتف بما عنده وبما جمعه من علم شيخ الطائفة ومرجعها الأكبر في التفسير " الإمام الطوسي صاحب كتاب التبيان " حتى نزعت نفسه إلى علم جديد بلغه، هو علم صاحب الكشاف، فضم هذا الجديد إلى القديم، ولم يحل بينه وبينه اختلاف المذهب، وما لعله يسوق إليه من عصبية، كما لم يحل بينه وبينه حجاب المعاصرة، والمعاصرة حجاب، فهذا رجل قد انتصر بعد انتصاره العلمي الأول نصرين آخرين: نصراً على العصبية المذهبية، ونصراً على حجاب المعاصرة، وكلاهما كان يقتضي المعاظمة والمنافرة، لا المتابعة والمياسرة، وإن جهاد النفس لهو الجهاد الأكبر لو كانوا يعلمون.