/ صفحه 385/
على حسب ما يحيط بها من أسباب وأحوال. ثم يتناولها الزمان بحوادثه؛ فيدفعها إلى التقدم والإصلاح والتشكل بما يلائم البيئة ومقتضيات الحياة؛ فتظل الحاجة إليها شديدة والرغبة فيها قوية. وقد يعوقها، ويحول بينها وبين التطور؛ فيضعف الميل إليها، وتفتر الرغبة فيها. وقد يشتط في مقاومتها فيرمي بها إلى الوراء؛ فتصبح في عداد المهملات.
ولقد خضع النحو العربي لهذا الناموس الطبيعي: فولد في القرن الأول الهجري ضعيفا، وحبا وئيدا وئيدا أول القرن الثاني. وشب وبلغ الفتاء - بالرغم من عيوب كامنة فيه لازمته - آخر ذلك القرن وسنوات من الثالث؛ حيث لمع من أئمته الأعلام عبدالله بن أبي إسحاق، والخليل، وأبو زيد، وسيبويه، والكسائي، وبعض الأخافشة، والفراء، والرؤاسي، ثم توالت أخلافهم بعد ذلك - على تفاوت في المنهج والمادة - إلى عصر النهضة الحديثة التي يجري اسمها على الألسنة اليوم ويتخذون مطلع القرن التاسع عشر مبدأ لها، ومنذ هذا المبدأ دخل النحو القديم في طور جديد من الوهن والضعف لم يشهده من قبل، وتمالأت عليه الأحداث؛ فأظهرت من عيبه ما كان مستورا، وأثقلت من حمله ما كان خفّا وزحمته العلوم العصرية فلم يقو على زحامها، وخلفته وراءها كليلا مبهورا، ونظر الناس إليه فإذا هو في الساقة من علوم الحياة، وإذا أوقاتهم لا تتسع للكثير بل للقليل مما حواه، وإذا عيوبه التي برزت بعد كمون؛ ووضحت بعد خفاء - تزهدهم فيه، وتزيدهم نفارا منه، وإذا النفار والزهد يكران على تلك العيوب، فيحيلان الضئيل منه ضخما، والقليل كثيرا، والموهوم واقعا، وإذا معاهد العلم المدنية تزوّر عنه، وتجهر بعجزها عن استيعابه، واستغنائها عن أكثره، وتقنع منه باليسير أو ما دون اليسير فيستكين ويرضى.
والحق أن النحو - منذ نشأته إلى يومنا هذا - مصاب بعلل وآفات مختلفة نكاد تكون متشابكة متداخلة - يعسر فصل واحدة في آثارها ونتائجهامن الأخرى. أضعفت شأنه، وشوهت جماله، وتولتها الأيام بالرعاية والإذكاء حتى كادت تقضى عليه، وانتهت به إلى ما نرى.