/ صفحه 36/
كثيفة من الأهواء المردية الوبيئة، فتتردى الجماعة في خلاف مستمر، إذ تتنازع الأهواء، وتتناحر المآرب، وتنحل الأمة إلى أفراد، كل امرىء منهم يعيش في جو نفسه، ومحيط شهواته، فلا يحس بآلام غيره، ولا يألف ويؤلف؛ وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد وصف المؤمن بأنه مألف، وأنه لاخير فيمن لا يألف ولا يؤلف. وإنه إذا استقامت القلوب واستقامت المشاعر النفسية، فأصبحت لا تخضع إلا للحق، ولا تؤمن إلا به فإنه لا تكون نفرة، ولا يكون نزاع.
وإنه لو استقصى تاريخ المنازعات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي تلبس لبوس الحروب أحياناً، وبحث عن أسبابها- لتبين أنها تنازع أهواء وشهوات، واصطدام مآرب وغايات لا تتصل بالحق، فهي نزعات ملوك، أو شهوات لزعيم برلماني، أو زعيم قومي، أو حاكم دكتاتوري، وقد تكون شهوات القلب تسيطر على أمة من الأمم، فتنظر إلى غيرها على أنها دونها، وتتخذها مطمعاً، تأكل خيراتها، وتعمل على بقائها في تأخرها، وتبيح فيها ما تحرم في ديارها، وتحسب أن لها وحدها حق البقاء، ولغيرها كتب الفناء.
وإن هذه النزعة التي يتحكم فيها الهوى على الضمير ويذهب الإخلاص في طلب الحقيقة، قد يقع فيها حتى الفلاسفة الذين يحاولون أن يتجردوا في منازعهم فلا يتجروا إلا الحق لذات الحق، فهذا أفلاطون فيلسوف اليونان، مثلا يحمد الله على أنه يوناني لا بربري، فتراه يعتبر من عدا اليونان من البربر، وأن اليونان صنف ممتاز من البشرية، وهذا من تحكم الهوى الجماعي على نفسه، فران على قلبه، وردد ما يقوله العامة في قومه.
وإن أهواء الجماعة التي تربي العصبية الجاهلية، وتسير تفكير الشخص هي التي توبق أمة بأسرها، في ظلم الاعتداء وتسمي السرقة وطنية، والغدر سياسة ودهاء، والإغتصاب قوة، والكذب خديعة، والدس كياسة، وهكذا تنعكس الحقائق، فيسمى الشر خيراً، والرذيلة فضيلة، والاعتداء دفاعا عن النفس،