/ صفحه 195/
مسيحية بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، وقد نشأ هذا من أن قسطنطين أول من تنصر من ملوكها لم يكن تنصره لغرض ديني بريء، بل كان تنصره لغرض سياسي، كما صرح بهذا - ول ديورانت - في كتابه قصة الحضارة - فقد ذكر أن قسطنطين حين اعتنق المسيحية لم يكن مخلصا في اعتناقه لها، وأنه لم يقدم عليها عن عقيدة دينية وإنما كان ذلك العمل منه حركة بارعة أملتها عليه حكمته السياسية، ولهذا كان بعد اعتناقه لا يخضع لما تتطلبه من شعائر وطقوس، وكان يعامل الأساقفة على أنهم أعوانه السياسيون، وكانوا يلقنون أتباعهم واجب الخضوع للسلطة المدنية، كما كانوا يلقنونهم حق الملوك المقدس، وكان قسطنطين يعمل على أن يكون ملكا مطلق السلطان، وهذا النوع من الحكم يستفيد من تأييد الدين له، وقد بدا له أن النظام الكهنوتي وسلطان الكنيسة الدنيوي يقيمان نظاما روحيا يناسب نظام الملوكية ولو كان مسيحيا حقا لكان مسيحيا أولا، وحاكما سياسيا ثانيا، ولكن الأمر كان فيه بالعكس، فكانت المسيحية فيه وسيلة لا غاية، حتى صارت المسيحية عندهم إلى الكاثوليكية التي جعلت منه نصف رومانية، وكانت قبل هذا في تعاليم المسيح، وبطرس يهودية، وفي تعاليم بولس نصف يونانية.
فلم ترد الآية الكريمة بتلك الصفات السلبية السابقة إلا أن أهل هذه الدولة لم يتخلصوا في مسيحيتهم من جاهليتهم الوثنية، فلم يؤمنوا بالله واليوم الآخر إيمانا يجعلهم يخافون عقابه فيه، فلا يعتدون على من لم يعتد عليهم من المسلمين، لأنهم لو كانوا يخافون عقابه لما اعتدوا عليهم، وشأنهم في هذا شأن كل من يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يعمل بمقتضي إيمانه بهما، كالعصاة في كل ملة من الملل السماوية، يقال فيه إنه لا يؤمن بالله واليوم الآخر حق إيمانه بهما، وكذلك لا تريد من وصفهم بأنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله إلا أنهم لا يحرمون الاعتداء على من لم يعتد عليهم، ولهذا اقتصرت على وصفهم بأنهم لا يحرمون ما حرم الله رسوله، ولو كانت تريد أحكاما عامة لقالت أيضا ولا يحلون ما أحل الله ورسوله، وكذلك لا تريد من وصفهم بأنهم لا يدينون دين الحق إلا أنهم لا يدينون بدين السلام