/ صفحه 119/
أقوامهم بالربوبية سبيلا إلى إلزامهم بالألوهية، وأنه إذا كان إنكار الربوبية شيئا واحدا لا تعدد فيه، فإن شرك الألوهية قد تعدد وتنوع بقدر ما تعدد تصور الإنسان وتخيل فيما يدفعه إلى عبادة ما عبد، ولقد وصل به القرآن إلى ((الهوى)) وقرر أنه مما اتخذ إلها ومعبودا ((أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)).
الوصية الثانية: ((وبالوالدين إحسانا)):
من أسرار التعبير القرآني:
والآن ننتقل إلى الوصية الثانية: ((وبالوالدين إحسانا)) وقد جاءت هذه الوصية بأسلوب الأمر بالواجب المطلوب، وهو الإحسان، ولم تذكر بأسلوب النهي عن المحرم وهو الإساءة كما جاءت الوصية الأولى ((ألا تشركوا به شيئا)) سموا بالإنسان عن أن تظن به الإساءة إلى الوالدين، وكأن الإساءة إليهما، ليس من شأنها، أو ليس من شأنه أن تقع منه حتى يحتاج إلى النهي عنها، ولأن الخير المنتظر من هذه الوصية وهو تربية الأبناء على الاعتراف بالنعم وشكر المنعمين عليها، إنما يتحقق بفعل الواجب وهو الإحسان، لا بمجرد ترك المحرم وهو الإساءة، لهذا وذاك قال الله تعالى فيها: ((وبالوالدين إحسانا)) ولم يقل((ولا تسيئوا إلى الوالدين)) فليس المطلوب سلب ضرر وإيذاء، وإنما المطلوب: إيجاد خير ونفع، بهما ترتبط القلوب، وبهما تنمو الفضيلة، وعليهما تشيد الأسرة وتمتد غصونها.
والإحسان يتعدى بحرفي الباء، وإلى، فيقال: أحسن به، وأحسن إليه، وبينهما فرق واضح، فالباء تدل على الإلصاق، وإلى تدل على الغاية، والإلصاق يفيد اتصال الفعل بمدخول((الباء)) دون انفصال ولا مسافة بينهما، أما الغاية فتفيد وصول الفعل إلى مدخول ((إلى)) ولو كان منه على بعد، أو كان بينهما واسطة، ولا ريب أن الإلصاق في هذا المقام أبلغ في تأكيد شأن العناية والإحسان بالوالدين ومن هنا لم يعد الإحسان بالباء في القرآن إلا حيث أريد ذلك التأكيد، فنراه في قوله تعالى حكاية عن قول يوسف لأبيه وإخوته: ((هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا، وقد أحسن بي، إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو))