/ صفحه 88/
قال: يا معشر النصارى، انى لارى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لازاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الارض نصرانى الى يوم القيامة، فأدركهم ما أدركهم من الخوف حين سمعوا كلامه، وامتنعوا عن المضى في مباهلة النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وصالحوه على أن يؤدوا اليه الجزية ويبقوا على دينهم.
أما المشركون فكان أمرهم في ذلك الرعب أشد، حتى انه كان يفوت عليهم ثمرة ما يدركونه أحياناً من نصر، كما سبق في غزوة أحد، ومثل هذا حصل في غزوة الاحزاب، ففد جمع المشركون فيها جموعاً كثيرة للاستيلاء على المدينة، فحاصروها حصاراً شديداً، حتى ضاق الامر بالمسلمين، وزاغت منهم الابصار، وبلغت القلوب الحناجر، ولم ينجهم الا ما ألقى في قلوب المشركين من الرعب حين طال عليهم الحصار، وأرسلت عليهم ريح باردة في ليلة مظلمة، فأدركهم فيها من الخوف ما أدركهم، وأجمعوا على الرحيل قبل أن يصبح الصباح، ولو لا ذلك الرعب الذي كان يلازمهم في حروبهم، لادركوا في هذه الغزوة ثمرة كثرة جموعهم، ولصبروا حتى يسلم لهم المسلمون اذا طال الحصار عليهم.
وقد اختلف في ذلك الرعب: أكان خاصاً بالنبى صلى الله عليه وآله وسلم، أم كان لامته أيضاً من بعده؟ والحق أن ذلك الرعب استمر بعده لخلفه الصالح من صحابته وخلفائه الراشدين، حتى فتحوا به مملكتى الفرس والروم، مع أنهم كانوا أقل منهم جنداً، وأضعف منهم آلة حرب، فحققوا بهذا وعد الله لهم، وانتثلوا خزائن الارض، واستخرجوا ما في ممالكها مما أفاء الله عليهم من خير، ومنحهم من فضل.
وقد بقى ذلك الرعب لامته ما بقوا متبعين هديه، متمسكين بسنته، فلما انحرفوا عن ذلك الهدى، وفرطوا في أوامر دينهم ونواهيه، وأساءوا التصرف في دينهم و دنياهم، وأعمتهم الشهوة، وغرهم سعة السلطان، أدركهم من الضعف ما أدركهم، حتى استبد فيهم الحكام، وساروا فيهم بالطغيان، فزال الرعب الذي كان في قلوب أعدائهم منهم، بل حل الرعب في قلوبنا من أعدائنا، حتى استولوا على بلادنا، و قضوا على ممالكنا، ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم.