/ صفحه 391/
فلما سئل المسيح (عليه السلام) من أتباعه عما يفعلونه مع قيصر الرومان: أيخضعون لحكمه أم يثورون عليه؟ قال كلمته المشهورة: اعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. وقيصر في ذلك الوقت من حماة الوثنية، والمسيح واليهود يدينون بالتوحيد، ومع هذا قدم حقوق قيصر على حقوق الله حتى لا تغريهم نفوسهم بالتقصير فيها، أو يؤثر فيهم أصحاب السياسة فلا يؤدوها له.
فلما ظهر الإسلام لم يشأ أن يغضي عن هذا الخلاف بين الشرق والغرب، لأن طبيعته تخالف طبيعة المسيحية في ذلك الزهد الذي تغالت فيه، فقد جاء بالزهد في الدنيا أيضا، ولكنه زهد معتدل لا يؤدي إلى إهمالها في حسابه، ولا يصير إلى نسيانها في تشريعه، وإنما يراد منه الوقوف عند حد الاعتدال في أمرها وأمر الآخرة، حتى لا يطغي فيه أمر الآخرة على الدنيا، ولا أمر الدنيا على الآخرة، ليستقيم أمرهما معاً، ويحسن حال المسلمين فيهما جميعاً.
ولكن الإسلام حينما نظر عند ظهوره إلى هذا الخلاف بين الشرق والغرب لم ينظر إليه من ناحية العصبية التي تجعل إصلاحه متعذراً، وتقضي بأن الشرق شرق والغرب غرب ولا يجتمعان، كما ذهب إليه بعض فلاسفة السياسة في العصر الحديث، بل نظر إليه من ناحية يمكن بها الجمع بين الشرق والغرب، وإزالة ما بينهما من هذا الخلاف السياسي الذي باعد بين أهلهما، وأقام بينهما ما أقام من الحروب التي تتصل ولا تنقطع، بل تزيد شدة على توالي الزمن، وتؤجج نار العداوة والإحن، وهو دين رحمة للعالمين كافة، ولا يهمه إيمان الناس به بقدر ما يهمه نشر راية السلام بينهم، حتى لا يكون هناك عداوات ولا إحن، بل يكون هناك سلام بينهم على اختلاف أديانهم ومذاهبهم.
وكان الحرب بين الفرس والرومان عند ظهور الإسلام قد وصلت إلى أشد حالاتها، فلم ينظر الإسلام في هذه الحرب كما ينظر الناس قديماً وحديثاً إلى المنتصر والمهزوم، يهللون للمنتصر ويكبرون، ويخلعون عليه من ألقاب البطولة ما يخلعون، وينظرون إلى المهزوم بعين الاحتقار، ويكيلون له من أوصاف الجبن ما يكيلون، وهي عادة متأصلة فيهم كما قال الشاعر العربي: