/ صفحه 294/
وقال جمهور العلماء: يعود الاستثناء إلى كل الجمل، غير أننا علمنا أن التوبة لا تسقط حقوق العباد، فلم نعمل الاستثناء في استحقاق القاذف الجلد، ولم نقل بسقوط حد القاذف بتوبته، فيبقى بعد ذلك: الفسق ورد الشهادة، وكلاهما يرتفع بتوبة القاذف، وبذلك تكون الآية دليلا على قبول شهادة القاذف إذا تاب.
ويروى عن الشعبي أنه قال: الاستثناء من الأحكام الثلاثة، إذا تاب وظهرت توبته؛ لم يحد وقبلت شهادته وزال عنه التفسيق، لأنه قد صار ممن يرضى من الشهداء، وقد قال الله عزوجل: " وإني لغفار لمن تاب " الآية (1).
وقد أيد الفريق الأول مذهبهم بمعنى عقلي: هو أن رد الشهادة من تمام الحد والعقوبة، فإن الله جعل على القاذف نوعين من العقوبة، عقوبة بدنية، وهي الجلد، وعقوبة أدبية، وهي الحرمان من مركز الشهادة، فكما أن التوبة لا ترفع الجلد لأنه حق من حقوق العباد؛ فكذلك لا ترفع العقوبة الأدبية التي هي رد الشهادة، لهذه العلة نفسها.
ومن الفريق الثاني من قال: تقبل شهادته في كل شيء إلا في القذف، وكذلك من حد في شيء من الأشياء فلا تجوز شهادته بعد التوبة فيما حد فيه، وذلك قول مطرف وابن الماجشون، وروى العتبي مثله عن أصبغ وسحنون من المالكية، ونقله الوقار عن مالك (2).
وهذا أيضاً يحكيم لمعنى عقلي، هو أن الذي حد في شيء من قذف أو زنا أو خمر أو لعان، يكون في شهادته شبهة من حيث تعلق رغبته النفسية، ولو لم يشعر، بأن يوجد في مجتمعه من يحد مثله، ليخفف ذلك من حزنه على ما أصيب به، فإن الاشتراك في المصائب يهونها، وتلك نظرة تدل على أن فقهاءنا يدخلون في اعتبارهم هذه المعاني النفسية، أو الاجتماعية، وما يشبهها.
وينقد ابن رشد المالكي مذهب الحنفية ومن وافقهم، فيقول: إن ارتفاع
ــــــــــ
(1) تفسير القرطبي ج 12 ص 279 طبعة دار الكتب المصرية.
(2) الوقار (كسحاب) لقب زكريا بن يحيى الفقيه المصري ـ المصدر السابق وحاشيته ص 180.