/ صفحه 242/
والدين أول ظهوره فكرة تقدمية، تلاقي ـ لمدة من الزمن ـ معارضة عنيفة من أنصار التقاليد البالية الذين يستمسكون بالقديم لأنه مألوف، وفي المعارضة قوة، وكم من أفكار إصلاحية تدين في بقائها ونجاحها للمعارضة، فإذا استقر الدين وعرفه الناس، هدأت العواصف حوله، وضعفت المعارضة له، وعندئذ يطمئن رجاله، فيبطئون في السير اعتماداً على سابق الفوز، أو يقعدون عن العمل اغتراراً بما بلغوا من مكانة، ويكتفون بالدفاع عن ماض مشرق بدل أن يهتموا بما يدور حولهم في حاضر له ما بعده، فإن الدنيا بطبيعتها متطورة، وكل لحظة منها يمكن أن تكون مولد فكرة جديدة، ولكل فكرة ـ مهما كانت ـ نهجها وأنصارها، كما أن للغرائز آثارها، وللفوضوية عشاقها ومؤيديها، فالظروف تتبدل، والأفكار تتغير، والمعارف قد تنطلق من مدارها الخلقي وتصطدم بالدين إن غفل رجاله عن سنة التطور أو تخلفوا عن ركب الحياة. وبمقدار ما تتقدم المعارف تتضاءل رقابة رجال الدين وتضعف آثار معارضتهم، حتى ينتهي الأمر بتقسيم المعارف إلى مدنية ودينية، ثم تطغي المدنية فتفرض أنظمتها على أخص شئون رجال الدين، مثل الطلاق والنكاح وإجراء العقود، وتجعلها دنيوية بحتة.
بهذا الأسلوب يأخذ العلم طريقه إلى رجال غير دينيين، وتلامذة اليوم هم رجال الغد ـ وعلى هذا الأساس يقوم الفصل بين العلم والدين، وبين الجديد والقديم، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه يتطور إلى اعتبار الدين سداً في وجه التقدم العلمي، ثم ينتهي بتحويل الفلسفة والأدب من خدمة الدين والعواطف الدينية إلى معاكسة ا لدين والنيل من رجاله، وهنا يظهر التدهور الخلقي، والاستهانة بالقيم، وإنكار المثل، وجحد العقائد، وبذلك يتم الفصل بين القديم والجديد، وينشأ التعصب للقديم، والاقتنان بكل ما هو جديد، وتسود الفوضى الأبيقورية.
إن الدين من غير علم ـ إن صح هذا التعبير ـ لا ينمو في ظله إلا الخرافات، والعلم من غير دين لا يجر سوى النكبات والاضطراب والفوضى، والمجتمع