/ صفحه 187/
وما من مجتهد إلا وقد روى عنه ما يدل على سماحته العلمية، وأنه كان يأبى على الناس أن يقلدوه في كل ما قال، ويلغوا ما سواه.
فأبو حنيفة رضي الله عنه كان يقول: " لا ينبغي لمن لم يعرف دليل أن يفتي بكلامي، وكان إذا أفتى يقول: هذا رأي النعمان بن ثابت ـ يعني نفسه ـ وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب.
والشافعي رضي الله عنه كان يقول: " إذا صح الحديث فهو مذهبي " وقال يوما للمزني " يا إبراهيم لا تقلدني في كل ما أقول، وأنظر في ذلك لنفسك فإنه دين ".
وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول: " ليس لأحد مع الله ورسوله كلام " وقال يوما لرجل: " لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الأوزاعي ولا النخعي ولا غيرهم وخذ الأحكام من حيث أخذوا من الكتاب والسنة ".
وهذه النظرة المنصفة تغيب أحيانا عن بعض أهل العلم، أو تغمرها العصبية، أو المصلحة الشخصية، فيشتد الخلاف، وينقلب لجاجا وخصومة، وربما أدى إلى قطيعة.
وقد عرف التاريخ العلمي الإسلامي كثيرا من صور الخلاف والتعصب ليس المجال لبيانها أو تحليل أسبابها، كما عرف صوراً رائعة من صور الاختلاف المهذب بين الائمة الأعلام والعلماء الراسخين، أفادت العلم ووسعت دائرة الفكر، وجعلت معين الفقه الإسلامي فياضاً.
وإن خير ما يقدمه خاصة أهل العلم إلى أمتهم في هذا العصر، أن يتناولوا بحوثهم العلمية في انصاف ورفق، وأن يكون رائدهم الحق من أي أفق ظهر، وأن يحسن كل منهم الاستماع إلى ما يقوله الآخرون، فربما وجد عنده صوابا وربما استعان به على الوصول إلى درجة الكمال المنشود.