/ صفحه 157/
ولم تشتمل دعوة أبى ذر هذه على افراط ولا مبالغة الا من ناحية واحدة. و ذلك أنه كاد يوجب على الاغنياء أن ينفقوا جميع ما فضل من أموالهم عن ضروريات حياتهم في سبيل الله وسدّ حاجات المعوزين; على حين أن الاسلام قد حبب الى الناس هذا المسلك، ولكنه لم يوجبه عليهم ايجاباً; بل يعتبر المسلم مؤديا لواجبه المالىّ ما دام لم يقصر فيما فرضته الشريعة أو أوجبته من زكاة وضرائب و صدقات ونفقة على الاهل.
بيد أن هذا، كما لا يخفى، هو أضعف الايمان، ومن بعده منازل رفيعة في الاسلام تتدرج في سموها وقربها الى الله حتى تصل الى المثل الاعلى الذي حث عليه أبوذر الغفارى وأوحت به اليه روح الاسلام.
وقد أخطأ كثير من الباحثين اذ عدوا دعوة أبى ذر الغفارى والدعوات المشبهة لها في الاسلام اتجاهات شيوعية، والحق أنها والشيوعية على طرفي نقيض فهذه الدعوات، اذ تحث الملاك على أداء زكاة أموالهم وعلى البر بالفقراء، تعمل بذلك على تثبيت الملكية الفردية وحمايتها من كل ما يتهددها من ثورة أو انتقاض من جانب الفقراء والمحرومين، وعلى اتقاء الصراع بين الاغنياء والفقراء; على حين ان الشيوعية تعمل على الغاء مبدا الملكية الفردية نفسه وتنادي بجعل الملكيات كلها ملكيات جماعية، وتمهد لذلك باثارة الصراع بين الطبقات. من أجل ذلك تعتبر هذه الدعوات السمحة من ألد خصوم الشيوعية ومن أشد ما يوضع في سبيل انتشارها من معوقات.
هذا، ولم يتح لدعوة أبى ذر رضى الله عنه شىء من النجاح، بل لاقى صاحبها في سبيلها كثيراً من ضروب العنت والاضطهاد، وانتهى الامر بأن ضاق معاوية ذرعاً به وبدعوته، فكتب بشأنه الى الخليفة يستعديه عليه، فطلب اليه عثمان أن يبعث به اليه في المدينة، ولما لم يستطع عثمان نفسه أن يمنعه عن متابعة دعوته نفاه الى الرّبذة فأقام بها حتى وافاه أجله وهو أشد ما يكون اخلاصاً لدعوته وأسفاً على ما آل اليه حال المسلمين.