/ صحفة 38 /
ولا شك أن المأمون حينما سار في هذا الطريق الذي يتعذر فيه الوصول إلى غايته من جمع المسلمين على مذهب واحد لم يكن له بد من الالتجاء فيه إلى تلك الوسيلة، وهي حمل من يراه معانداً على ترك مذهبه بالكره، وهي وسيلة كثيراً ما يساء استعمالها، وكثيراً ما تؤدى إلى أمور لا يقرها الإسلام، ولا سيما أن الخلاف إنّما يكون في أمور نظرية يصعب اثبات العناد فيها، وإنّما هو التعصب الذي يجعل كل فريق من المختلفين يرى في الآخر أنه يخالفه عن عناد، ويجعله يستحل بهذا حمله على رأيه بوسائل الاكراه: من سجن أو تعديب أو نحوهما من الوسائل، ومثل هذا يزيد الخلاف حدة، ويؤدى إلى عكس المقصود منه، فلا تجتمع به كلمة، ولا تزول به تفرقة، وقد استحل المأمون بهذا لنفسه أن يحمل أهل السنة بوسائل الكره على القول بخلق القرآن، فزاد الخلاف حدة بين المسلمين وجعل الدولة في عهده لا تهتم الا بحمل الناس كرهاً على هذا القول، فانصرفت به عن كثير من الأمور النافعة، وضيعت زمنا لا يستهان به في فتنة نضر ولا تنفع.
على أنه إذا كان العناد في الكفر لا يصح أن يتخذ وسيلة لتركه بالاكراه، فانه لا يصح أن يتخذ العناد في مذهب اسلامي وسيلة لتركه بالاكراه من باب أولى، ولا شيء في المعاند في مذهبه الا أنه لا يكون له فيه عذر عند الله تعالى، ولا يكون شأنه فيه كشأن من اجتهد فأخطأ، لأن من اجتهد فأخطأ يؤجر على اجتهاده كما سبق، أما المعاند فلا أجر له في عناده، وإنّما هو آثم مستحق لعقاب الله تعالى، فيجب أن يترك لهذا العقاب الأخرى، ولا يصح أن يحمل على ترك مذهبه بعقاب دنيوي، وهكذا شأن الكافر المعاند، فلا يصح أن يحمل على ترك الكفر الذي يعاند فيه بشيء من العقاب الدنيوي، لأن الله تعالى حينما قال في الآية ـ 29 ـ من سورة الكهف: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر انا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وان يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا).