/ صفحه 304/
إلا من أجل عقيدة كانت ما تزال طريقة الغرس في نفسه، وأنه لم يمتشق في شيخوخته سفه العاصف المتأجج المرهوب المحبوب إلا من تلك العقيدة، وقد توطنت في نفسه وامتدت واستمكنت، فإذا هي روحه الذى يتنفس ودمه الذي يجرى.
وماذا تنتظر من شيخ نتيم كهولته عقيدة نيرة، وتصبره على العذاب الشديد الغليظ فيها. وهي طرية الغرس لما تنتشر عروقها في أنسجته وشرايينه، غير أن تنتضيه ذلك السيف العاصف. وقد هبطت جذورها إلى أخمصيه واشتبكت خيوطها في مشاشه، وفشت منه في كل غدة، وفي كل حجيرة، حتى استحال دمه كله إيمانا وإخلاصا، وحقاً من الحق الصريح.
لم يكن الكهل الشاب يتلقي حز الحديد، ولفح النار، وضغط الماء، بلحمه ودمه، وإنما كان يتلقاه بعقيدته وإيمانه، فإذا لقي جلده: هذا الثوب، من العذاب الشديد الغليظ أذى وتبريحا، فقد كانت نفسه، تلك الروح، تجد من التضحية لذة وترويحا.
ثم لم يكن الشيخ الفتي يصارع عدوه بساعده وعضله، وإنماكان يصارعه بدينه ومبدئه، فليس هو ـ في واقعة ـ جارحة تكل، ولا سيفاً يفل، ولا ضربة تنبو، وإنما هو حقيقة تنصب على زيفها انصباب بالنور على الضلام يمزقه تمزيقا، ويمحوه محواً.
فأى عجب بعد هذا في أن يصبر كهل على فتنة، أو يثبت على امتحان، مهما غلا هذا أو تكل في قسوة، أو بالغاً فيها؟ وأي عجب بعده في أن تشب شيخوخة هذا الكهل وقد تبين لهاالحق، وو ضح لهاالطريق؟ وما حاجة الكهل والشيخ معاً إلى أجساد الشبان، وعضلات الاحداث مما تنتظره لصبر ممتحن أو إقدام مقدام؟ وما الفتوة؟ هل هي سن وميعة صبا؟ هل هي مرحلة معينة من مراحل العمر؟ الواقع أنها ليست كذلك، وإنما هي إيمان، يكبر حظك منهاكلما كبر حظك منه، هي حماسة إيمان تلبس إهاب الكهول والشيوخ، كما تلبس إهاب الشبان الاحداث، فتنشيء في هؤلاء وهؤلاء ما ينشيء الشباب الجلد القوى الصبور،