/ صفحه 251/
ثلاثة أشياء أعتقد اعتقاداً لا يخالجني فيه شك أنها هي الاساس المتين الذي تقوم عليه عظمة الأمم، والدرع الحصين الذي يقي هذه العظمة من أن تمس فضلا عن أن تصاب، تلكم الثلاثة هي: الخلق، والعلم، والعمل.
فأما الخلق فلا أريد به فضيلة بعينها، وإنما أريد هذا المنبع النفسي الذي لا يصدر عنه إلا الفضيلة في شتى صورها، ومختلف ألوآنها، أريد هذه القوة الخفية التي تجعل الانسان رقيباً على نفسيه بنفسه، يسائلها إن فعلت لم فعلت، وإن تركت لم تركت، ثم ينظر إلى فعلها وتركها نظر المحايد الذي لا يهمه أن يشهد لها أو عليها، لانه لا يرمي إلا إلى الخير، ولا يبغي إلا الاصلاح ـ إذا وجدت هذه القوة في الانسان فهو بخير، بل هو الخير كله، إنها ينبوع الأخلاق الفاضلة جمعياً، عنها ينبع الصبر إذا اقتضته الحياة أن يصبر، وعنها تنبع الثورة إذا اقتضته الحياء أن يثور، وعنها يأتي الحياء، وعنها تأتي الجرأة، وبها يخلص العامل في علمه، والاستاذ في علمه، والطالب في درسه، وازارع في حقله، والجندى في جيشه، والحاكم في ديوانه، والمحكوم في مختلف ألوانه، وبها تحل المشكالت، وتنفرج الازمات، وتكثر الثمرمات، وترقى الجماعات، وتكثر العوامل المفضية بالامة إلى السعادة، وتقل العوامل المؤدية بها إلى الشقاء.
يختلف التعبير عن هذا المعني، فمن الناس من يسميه "الضمير الحي" ومنهم من يسميه "الشعور بالواجب" ومنهم من يقول هو "تقدير الفرد لمسئوليته أمام الجماعة" وقد يرد الحديث عته في الدين بأنه "التقوى" أو "الاخلاص" أو "النفس اللوامة"... الخ. والمعني في كل ذلك هو المعنى، والاثر في صلاح الحياة واستقامتها هو الاثر.
وقد يكون من العسير أن تربي الأُمة كلها على هذا النمط العالي، ثم يكون من البعيد أن تنهض الأمم إذا كان هذا شرطاً من شروط نهوضها، أو أساساً من أسس بنائها، ولكن من يقول أنه يجب أن تكون كلها كذلك؟ فيكفي أن يشيع ذلك فيها، وأن يعمل ولاة الأمر على ألا يوسدوا الاعمال ـ ولا سيما التوجيهية منها ـ إلا لهذا الطراز من المواطنين الصالحين .