/ صفحة 38/
صغير، ولا لقوى على ضعيف، كل على قدر وسعه، وفي حدود متناوله، مُطالبٌ بنصيب قل أو كثر في عمارة هذا الكون بالصلاح والاصلاح، وان كل سهم تبخل به عزيمة من العزائم، تنقص به لبتة أو لبنات في بناء المجتمع الصالح الذي يُطلب منا اقامته بمقتضى خلافتنا في الأرض، والذى لولا يد الإنسان ما ارتفع له بنيان، بل لولاها ما تغير وجه التاريخ في هذا العالم، فقديما قال بعض الحكماء: ((أرونى ماذا أضافت العجماوات إلى ما وهبته لها الطبيعة منذ نشأة العالم إلى اليوم؟..
بينما نرى الإنسان قد غيّر وجه الأرض ونقب في احشائها، واليوم وقد أمضى العقل الإنساني ألوف السنين في بحث وتنقيب، لا يزال معينه جاريا لم ينضب، ولا يزال يبتكر الجديد المفيد. انه لا شيء يفف أمام العقل الإنساني، وال شيء يضع حداً لكشفه وابتكاره الا شيء واحد، هو كسله وتراخيه (1)
هكذا كل شيء في الكون ينادينا منذ نشأتنا بأننا مسئولون، لا بمعنى أننا متهمون محاسبون، بل بمعنى أننا مقصودون مأمولون، وان من أكبر دواعى الفخار للانسانية أن تكون هي محط هذا السئوال العالمى، ومناط ذلك الأمل الكونى.
وهكذا يتبين لنا أن المسئولية في أساسها ليست خطاب تعنيف وتخويف، وإنّما هي لقب تشريف وخطاب تكليف، وهى تشريف من حيث هي تكليف، إذ لا يكلف بحمل الأعباء الا من هو أهل لحملها.
على قدر أهل العزم تأنى العزائم *** وتأتى على قدر الكرام المكارم
نعم اننا بفطرتنا مسئولون، لا سؤال اتهام ومناقشة حساب، بل سؤال التماس ودعاء ورجاء، وليس الإنسان المسئول هو الذي يلتمس ويرجو، بل هو المدعو المرجو. فالمصالح المادية والأدبية تلتمس منه أن يقوم بأدائها، والقيم الأخلاقية والاجتماعية والروحية تدعوه أن يتدخل بارادته وعزيمته لتحقيقها، ثم تناشده مؤهلاته ومرشحاته نفسها أن يسرع إلى تلبية هذا النداء السرى العميق، الذي تبسطه الكائات بلسان حالها، قبل أن تبسط الأنبياء والرسل بلسان مقالها:
((و قل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)) ؟
ــــــــــ
(1) الفيلسوف بوسويه في الفصل الثامن من كتاب ((معرفة الله)) .