/ صفحة 88 /
الحقائق مجالا للشعر، إذا عمل فيها الخيال فنقلها عن واقعها إلى آفاقه الفساح، بما يصور ويخيل، والتمس مثل ذلك في مثل قول المتنبى:
تسود الشمس منا بيض أوجهنا ***** ولا تسود بيض العذر واللم
وكان أمرهما في الحكم واحدة ***** لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم
فان تسويد الشمس لبشرات الاوجه البياض، وعدم تسويدها لبياض الشيب في العذر واللمم، من الحقائق الثابتة المقررة، ولكن تعليلها بأن الظلم مركوز في الطبيعة، ولو عدلت الطبيعة في حكمها، لما فرقت في أثرها بين موضع وموضع، نقلها من سجن الحقيقة الضيق، إلى افق الخيال الواسع، ولا جرم أن الخيال اهو العنصر المقوم للشعر، فالادب ـ وان كان تقليدا للطبيعة ـ ليس تقليداً أعمى، ولكنه تقليد يخلق جديدا، بما يفاض عليه من صور الخيال الفنان.
وأحدث الآراء في الآداب والفنون، أنها غاية في نفسها، وليست وسيلة لشيء آخر، وأن الشيء الجميل له في نفسه قيمة ذاتية، وأن الفن يحكم بقوانينه هون وبمقتضى مقاييس الجمال، وليس يحكم عليه بمقتضى المقاييس الاخلاقية ولا غيرها ومن هنا شاع على ألسنة الادباء: "الفن للفن". فإذا كانت الفلسفة النظرية غايتها الحق، والفلسفة العملية غايتها الخير، فأن الآداب والفنون غايتها الجمال.
ويتصل بهذا الموضع، ما رواه أبو حيان، من ان أبا عبد الله المرزباني، كان إذا سمع قول العباس بن الاحنف.
إذا اردت سلوا كان ناصركم ***** قلبي، وما أنا من قلبي بمنتصر
فأكثروا أو أقلوا من اساءتكم ***** فكل ذلك محمول على القدر
وضعت خدى لأدنى من يطيف بكم ***** حتى احتقرت، وما مثلي بمحتقر
جن، واستغاث، وشق الجيب، وحوقل، وقال: "يا قوم، أما ترون إلى العباس بن الاحنف، ما يكفيه أن يفجر، حتى يكفر! متى كانت القبائح والفضائح والعيوب والذنوب محمولة على القدر؟ ومتى قدر الله هذه الأشياء وقد نهى عنها؟! ولو قدرها، كان قد رضى بها، ولو رضى بها، لما عاقب عليهاز لعن الله الغزل إذا شيب بمجانة، والمجانة إذا قرنت بما يقدح في الديانة!