/ صفحة 87 /
الفلسفة من التاريخ، لأن التاريخ يبحث في الجزئيات من حيث هي جزئيات، أما الفن ومنه الشعر، فيتعلق بروح هذه الحوادث الذي لا يفنى، وبالحقيقة التي ليس ما يعرض من الحوادث الا مظهراً لها، فإذا نحن رتبنا الفلسفة والتاريخ والفن حسب أهميتها، كانت الفلسفة في المرتبة الأولى لأنها تبحث في الكلي من حيث هو كلي، ويليها الفن، لأن غرضه هو الشيء الكلي متحققاً في جزئي، ثم التاريخ، لأنه يبحث في جزئي من حيث هو جزئي.
ومما ينبغي التنبه له هنا: أن العلامة ابن خلدون قد "فلسف" التاريخ، فوضع له مقاييس وقواعد، شرحها في مقدمته المشهورة، تلخص في:
1 ـ أن سلوك الإنسان يجرى على قوانين ثابتة، وفي نظام ءبيعي لا يتغير بل يتحكم فيه قانون النشوء والارتقاء.
2 ـ وأن المقدمات المتماثلة تلتج نتائج متماثلة. وعلى أساس فلسفته هذه، استطاع أن يمتحن الاحداث التاريخية، ويميز صحيحها من فاسدها، وضرب لذلك الامثال، مما تغنى شهرته عن الاطالة بنقله.
ويتميز الفن ـ عند أرسطو ـ عن الأخلاق، بأن الأخلاق تتعلق بالأعمال، وما تصدر عنه الأعمال من باعث وغرض وشعور ونحو ذلك، أما الفن فلا يهتم الا بما ينتجه الفنان، ويتميز عن الطبيعة بأن الطبيعة تنتج أمثالها، أما الفنان فينتج شيئاً آخر يخالفه، كشعر أو صورة أو تمثال.
وإذ ظهر أن موضوع الفلسفة غير موضوع الفن. وجب أن يقف الفن عند حده، فلا يصح للشاعر مثلا أن يصوغ شعره من الأفكار المجردة، بل يصوغه من الجزئيات، ويفيض عليها من الكليات.
وكما لا يصح أن تكون المعاني المجردة موضوعا للشعر، كذلك لا يصح أن تكون الحقائق الواقعية موضوعا له، فمن القضايا السائرة: "أعذب الشعر أكذبه" والحقائق الواقعة أبعد الأشياء عن الكذب، فهي عن الشعر كذلك. وإنما تصلح