/ صفحة 44 /
واشتراط الاستطاعة المادية لأداء هذا الإلزام أمر يكشف عن طبيعة الوجود الثنائية، وأنها ظاهر وباطن، أو لا مادة ومادة، أو قيم ووسائل لها.
و"الإفناء" الذي ينادى به المتصوفة صورة من الروحية السلبية. وتساوى في النتائج وعدم الملاءمة لطبيعة الوجود، المادية الحرفية. چ
أن الغلو في تطبيق الاتجاهين يباعد بينهما إلى حد المقابلة التامة، ويجعل منهما وسيلتين غير مقنعتين، وفي الوقت نفسه غير كافيتين لشرح الوجود في عمومه، وشرح حياة الإنسان على وجه أخص.
ومنذ العهود الأولى للبشرية لازم وجود الإنسان هاتان النزعتان، وكانت النزعة المادية منهما تسيطر أول الأمر على حياته فبى عقيدته، وتفكيره، وخياله، ووجدانه، وسلوكه. كما سيطرت النزعة الروحية المعتدلة في عصور الدعوات الدينية السماوية، بينما تمكنت الروحية السلبية في أيام أزمات الشعوب السياسية أو الاجتماعية. وفي الوقت الذي كانت تسيطر فيه إحدى النزعتين، المادية والروحية، على حياة الإنسان أو على عهد من عهود الجماعة الإنسانية، لم تفقد النزعة الأُخرى أنصاراً لها، وإن صاروا قلة، أو تحول حديثهم إلى همس أو مشافهة. ولم يزل الوضع بينهما على هذا النحو: غلبة لإحداهما على الأُخرى، وعدم فناء للمغلوب على أمره منهما، وأحداث الجماعة المحلية أو الأحداث العالمية هي التي تلقى بالسلطان في التوجيه إلى جانب واحدة منهما. ولا خير للإنانية في المادية الحرفية، كما لا خير لها في الروحية السلبية. لكن الخير في الاعتراف بمبدأ كل منهما، والأخذ في توجيه الإنسان بأنه مادي روحي، وبأن حياته والوجود كله يقوم على أنه مزودج: يدرك الإنسان في طفولته ظاهر الوجود، ويدرك ما وراء ظاهره عند ما يبلغ الرشد والنضوج.