/ صفحة 41 /
والقوة الإلهية في رأى الدين عنوان الكمال والخير، أمر مركز القيم الرفيعة في الوجود. وما يوصى به الله في رسالاته للبشر لا يخرج عن نطاق هذه القيم، وما يتقرب به الإنسان لله هو اتباع هذه القيم والعمل على بلوعا: من صنع المعروف، والقيام بالمعاونة، وإيتاء الإحسان في ضرويه المختلفة لمن يستحق الإحسان، والمحافظة على حقوق الغير في عقود المعاملة، ورعاية الضعفاء في الجماعة بشتى أنواع الرعاية... وغير ذلك مما يرتفع عن دائرة النفع المادي المتبادل، والمعاوضة العاجلة. وهي على الإجمال ما قصد فيها وجه الله. ولو شاب بعض الرسالات الدينية معنى التنفير من هذا الوجود، والاستخفاف بما يسميه الدين باسم "الدنيا" إلى حد إلغاء العتبارها إلغاء تاما كان هذا البعض من الرسالات اتجاها سلبيا موقتا في توجيه الإنسان، لا يمثل ما يوصى به الله في رسالة باقية خالدة. لأن ما يوصى به الله هو العمل الإيجابي من الإنسان لتحقيق القيم الرفيعة في وحدات تصرفه ومفردات سلوكه في الحياة. والمادية الحرفية كالروحية السلبية، لا يتلاءمان مع طبيعة الوجود، ولا مع طبيعة الإنسان ككائن من كائنات العام:
المادية الحرفية تقوم على إلغاء الوجود المعنوي، أو ما يسمى بوجود القيم الرفيعة، والروحية السلبية تقوم على إلغاء العتبار الوجود المشاهد أو الوجود الحاضر، وطبيعة الوجود ليست هي أحد الأمرين خالصاً; بل هي مزيج من النوعين: مزيج مما ينسب إلى الروح، ومما يرجع إلى المادة. ولنأخذ الإنسان مثلا لطبيعة الوجود. فإنه في الحال التي تسطير المادية على اتجاهاته في الحياة، وهي الحال التي ينكر فيها القيم وللثل العليا، تراه إذا ضعف عن المقاومة في صراعه المادي أو حلت به نازلة لا قبل له على دفعها في أنه الحاضر اندفع في خواطره النفسية يستعين بالله، تلك القوة التي تسمو على الوجود المادي. وإذا نكب في علاقاته بالآخرين; في أسرته أو أصدقائه، تراه يتحدث عن الغدر وعدم الوفاء من غيره ويسترسل في الحديث إلى الإنسانية ومالها من خصائص رفيعة... وهكذا ينتقل من محيطه المادي الأول الذي كان يعيش فيه بتفكيره وسلوكه إلى دائرة القيم أو دائرة الروحية.