/ صفحة 375/
وتكنِّ عن القلب بأنه بين الحشا والترائبن وتبدد شمل الدمع، كما تبدد شمل أحباب أبي تمام، الذي لا إخاله أحب في حايته أحداً على الإطلاق؟
هذا التأثر الثقافي الحضاري، الذي برز بوضوح في العصر العباسي، والذي ظهرت آثاره في الأساليب، وفي المعاني والأخيلة جميعاً، هو همزة الوصل بين الآداب وبين الفلسفة بمعناها العام الذي يشمل الكلام والمنطق ومصطلحات العلوم، وغير ذلك من كل ما تناولته الترجمة والتعريب من ضروب الثقافات، وقد كان هذا التأثر غامراً، فلمّا سلم منه أديب في المشرق، وإن تفاوتت حظوظ الأدباء منه؛ على حين أنه لم يكن للأندلس منه نصيب حينئذ، لخضوعها لسلطان الفقهاء، الدين حرمَّوا الفسلفة وما إليها تحريماً باتا، لا هوادة فيه، ولا خلاص منه
وأبو تمام والمتنبي أشهر من تأثروا في أشعارهم بالفسلفة، حتى مضى فيهم قول حكيم المعرة: أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري، وأبرز مظاهر هذا التأثر تبدو في حكمهم التي انتقلوا بها من التجارب الفطرية، مَدْرَجها ومرباها، إلى النظريات العلمية، والحقائق الفسلفية؛ حتى قيل إن المتنبي نقل حكم أرسطو ونظمها شعرا.
والدراس لأشعار العباسيين دراسة الناقد المتثبت، يدرك في سهولة ووضوح معالم الثقافة المجتلبة في نواحيها المختلفة، كما يدرك ما أفاد الأدب من هذه الثقافة من محاسن، وما جرت عليه من ضعف.
وإذا أخذنا (البحتري) طَرَفا، وهذا العَلُم فيمن لم يتأثروا بالفلسفة لنشأته البدوية، وأخذنا صريع الغواني وأبا تمام والمتنبي وأبا العلاء، مثلا، طرفا آخر، سهل الأمر جداً في التمييز بين شعر الملكة البدوية المطبوعة، وبين شعر الثقافة المصنوعة، وإني لأتخيل البحتري يثور في وجوه هؤلاء الشعراء المتعالمين من معاصريه، صائحاً:
كلفتمونا حدود منطقكم ****** في الشعر يغني عن صدقه كذُبهْ
ولم يكن ذو القروح يلهج بالمنـ ****** طق، ما نهجه، وما سببه
والشعر لمح تكفي إشارته ****** وليس بالهزر طوّلت خطبه