/ صفحة 362/
أذكر أن محدثا تكلم معي في جلسة خاصة وبحماس شديد في وجوب التخلص من الإسرائيليات وضرب مثلا لذلك خلق السموات والأرض في ستة أيام، وبعد أن فرغ من محاضرته الطويلة، وظن أنه أقنعني، قلت له: (ولكن هذا في القرآن يا أخي، وليس من الإسرائيليات في الحديث كما تعتقد). فبهت واستولي عليه الوجوم.
ولا يحسب القارئ أني أريد الدفاع عما بين أيدينا من كتب الحديث، وما اختلفنا أو اتفقنا في تسميته صحاحا، وأزعم أنها خلو من الإسرائيليات أو مما يخالف الحق، أو أجزم بأن كل مال في الصحاح صحيح ـ أخذا بكلمة صحيح فلان كلا، بل يحتمل ـ في رأيي ـ أن كثيراً من الدوافع لعبت دورها في خلق ما ليس بواقع، وأن جبروت الحكم والسلطان جعل الرواة لا يظهرون كل ما عندهم، وأن بعض ذوى الأهواء قالوا عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لم يقله ـ ومن ينكر ما للطغاة وحكام السوء من أثر على تراث له القداسة بعد القرآن؟ لست أنكر أن هناك دسا وخلفا، ولكني مع ذلك أعارض أشد المعارضة في أن نمس كتب الحديث، ونستبيح لأنفسنا حق التصرف فيما نراه ـ نحن ـ من دس الدساسين كان لدى القدماء مقاييس وموازين للحكم على الأحاديث، استعملوها فيما سجلوه لنا. وربما كانوا على شئ من حسن الظن ببعض الرواة لمكانتهم وحسن القبول عنهم لما خفى من أحوالهم، وكيفما كان الأمر، فمما لا شك فيه أن الذين جمعوا هذا التراث الضخم، وكانوا أقرب منا إلى زمن مصدر الأحاديث، وأعرف منا برجاله، قد بذلوا غاية جهدهم وأرهقوا أنفسهم في التحري، والتزموا الأمانة والدقة. ولا اعتراض عليهم، وإنما الكلام ينصب على أن ما جمعوه فيه إسرائيليات وفيه ما ينافي الدعوة والعقل أو العلم الحديث. وهذه نقطة استميح القارئ أن أقف عندها لأقول: إن هذا التراث تراث إسلامي خالد وملك للمسلمين عامة، لا لطائفة دون طائفة، وإنه ـ بما له وعليه ـ مصدر كثير من الحركات الفكرية، وحجة للآراء المذهبية، ومبعث للعقائد الكلامية، وما ليس ملكا لفرد لا يتصرف