/ صفحة 206 /
ما رواه عنه المسعودي في (مروج الذهب) فقد ذكر أنه حمل إلى أن طولون في النيل مكرماً: رجل معمر من الأقباط في سنة نيف وستين ومائتين، كان بأعالي بلاد مصر من أرض الصعيد، وكان ممن يشار إليه بالعلم من لدن حداثته، والنظر والإشراف على الآراء والنحل من مذاهب المتفلسفين وغيرهم، فأحضر له أحمد ابن طولون من حضره من أهل الدراية، وصرف همته إليه، وأخلى له نفسه في ليال وأيام كثيرة، يسمع كلامه وإيراداته وجواباته فيما يسأل عنه؛ وأقام عنده نحو سنة فأجازه وأعطاه، فأبى قبول شيء من ذلك، فرده إلى بلده مكرماً!.
ومن سماحة ابن طولون، أنه لما دخل دمشق وقع بها حريق في بعض بيوت النصارى عند كنيسة يسمونها (كنيسة مريم)، فركب ابن طولون إلى مكان الحريق ومعه أبو زرعة البصري وأبو عبد الله أحمد بن محمد الواسطي كاتبه، ثم أمر بسبعين ألف دينار من ماله، وأن يعطي لكل من احترق له شيء، ويقبل قوله ولا يستخلف، فأعطوا لمن ذهب ماله، وفضل من المال أربعة عشر ألف دينار.
ولقد قابل غير المسلمين من رعية ابن طولون هذه السماحة بما تستحق من تقدير وشكران، وأقرب دليل بين أيدينا على ذلك أنه لما اشتدت العلة بابن طولون طلب من الناس أن يدعوا له، فخرج المسلمون بالمصاحف إلى سفح الجبل، وتضرعوا إلى الله في أمره؛ ولما رأى النصارى واليهود ذلك من المسلمين أرادوا أن يعبروا عن شكرهم للوالي وتقديرهم لصنائعه، فخرج الفريقان: النصارى بالإنجيل واليهود بكتب التوراة، واجتمعت الجماعة كلها في سفح الجبل، واعتزل كل فريق منهم على حدة، يدعون الله ويتضرعون إليه سبحانه في شفاء الأمير!..
* * *
أما بعد، فإذا كنا نحمد هذه المساحة الدينية بين أهل الأديان المختلفة، ونتمنى أن تثمر ثمرها، فمن الواجب أن نكون أشد حرصاً على توفير هذه السماحة بين أهل المذاهب في الدين الواحد، فمهما كانت جزئيات الخلاف بين هذه المذاهب فالملة واحدة، وصدق العلي الكبير: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).