/ صفحة 205 /
من الإناوات أو الضرائب، بل على العكس من هذا خفف عنهم ما ضربه عليهم ابن مدبر صاحب الخراج بمصر على عهده حينما احتاج إلى تكثير الخراج لينفق منه على بعض مظاهر التعمير، ولقد روى البلوى المؤرخ في سيرة ابن طولون عن رهبان (دير القصير (1)): عبارة يتحدثون فيها عن ابن طولون وإنصافه لهم، مع عدم تماديه معهم، ومع تحذيره لهم من سوء استغلالهم لعطفه، وهذا واجب الحاكم: لين في غير ضعف، وصرامة في غير عنف، ونص العبارة:
قالوا: كان كثيراً ما يطرقنا الأمير أحمد بن طولون، ويخلو في بعض قلالينا (2) يكفر، وكان يأنس براهب منا يقال له (أندونه) فشكونا إليه يوماً أمر ابن مدبر صاحب الخراج بمصر، وقلنا له: إنه يطالبنا بجزية رءوسنا، وقد أسقطت عن أمثالنا على مر السنين، فرقع إليه بخطه توقيعاً وقال لنا: احذروا أن تجعلوا توقيعي هذا كالسيف الذي يصول به صاحبه، ولكن استعملوا الإستكانة عند إيصالكم إياه إليه والمسألة وحسن التلطف، فعجبنا من قراء وصرنا إلى ابن مدبر وإذا به قد بلغه خبر التوقيع، واستعملنا ما أمرنا به الأمير، فأخذ التوقيع منا، وبلغ لنا فوق ما نحبه. له.
فانظر كيف هيأت المساحة الدينية لابن طولون وهو والي مصر ونائب الخليفة في بغداد أن يديم زيارة الرهبان، وأن يتلطف معهم ويأنس بهم، ويختلي في ديرهم ليفكر، وينصفهم حينما يعرضون عليه ظلامة لهم!.
والسماحة الدينية تتجلى أيضاً بأوسع معانيها في الإستماع إلى رأي المخالف، والإستفادة من حكمته، لا يصد عن ذلك اختلاف دين أو تفرق ملة، لأن الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها أنى وجدها، وابن طولون كان يعرف هذا ويطبقه، إذ كان حريصاً على طلب العلم عند أهليه وعارفيه مهما كانت ملتهم، ومن شواهد ذلك

ــــــــــ
(1) كان في جهة حلوان، في المكان المطل على الصحراء على النيل، وعلي القرية المعروفة اليوم باسم المعصرة، ودير القصير ما زال إلى اليوم عامراً.
(2) جمع قلية كعلية، وهي الصومعة تكون في كنيسة النصارى.