/ صفحة 196 /
بعدها إليهم، فاجتمعوا به سراً، ولم يكن معه من قومه إلا عمه العباس، وهو على دين قومه، وقد أراد أن يحضر هذه المعاهدة السياسية، ليستوثق فيها لابن أخيه، فعرفهم بأنه لم يزل في منعة من قومه، حيث لم يمكنوا منه أحداً ممن أظهر له العداوة والبغضاء، وتحملوا من ذلك أعظم الشدة، ثم قال لهم: إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإلا فدعوه بين عشيرته، فإنهم لبمكان عظيم. فقال البراء بن معرور: والله لو كان في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه، ولكنا نريد الوفاء والصدق، وبذل مهجنا دون رسول الله. ثم قالوا جميعاً للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الله عليه وسلم: خذ لنفسك ولربك ما أحببت. فقال: أشترط لربي أن تعبدوه وحده، ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم متى قدمت عليكم، فقال له الهيثم بن التيهان: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال ـ يريد اليهود ـ عهوداً، وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعا? فتبسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقال: بل الدم الدم، والهدم الهدم ـ يريد إن طالبتم بدم طالبت به، وإن أهدرتموه أهدرته، فبايعوه وبايعهم على ذلك، ثم هاجر إليهم بعد هذه المعاهدة السياسية.
والفضل في نجاح هذه المعاهدة لفهم الأوس والخزرج رسالة الإسلام من أول الأمر، فلم تلتبس عليهم كما التبست على بني عامر، فقد أردك إياس بن معاذ في المرة الأولى أن المعاهدة مع الإسلام خير مما جاءوا له من مخالفة قريش على الخزرج، لأن مخالفتهم مع قريش تقضي باستمرار الحروب فيما بينهم، أما المعاهدة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فتؤلف بينهم، وتجعلهم إخواناً في هذا الدين الجديد.
وكذلك فهموا في المرة الثانية رسالة الإسلام على أنها دعوة تأليف لا تفريق ورسالة سلام لا رسالة حرب ومغانم، وهذا حين قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): إنا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعز منك: