/ صفحة 179 /
وابن سينا، ثم من بعد إلى ما كان من ابن رشد في رده على الغزالي، وكتابة: (تهافت الفلاسفة) محاولا بيان الحق في المشاكل التي احتدمت الخصومة من أجلها بين حجة الإسلام والفارابي وابن سينا.
وابن رشد (520 ـ 595هـ) يعتقد اعتقاداً لا ريب فيه أن أرسطو هو المفكر الأعظم الذي أدرك في هذه المسائل ونحوها الحق الذي لا يأتيه الباطل من جانب من جوانبه، وأنه الصورة العليا للعقل الإنساني، حتى ليسميه بالعقل الالهي. (وكان من هذا، أن توفر على شرحه واستخلاص فلسفته من كتبه، حتى سماه مؤرخو الفلسفة بحق (الشارح) للمعلم الأول بإطلاق.
من أجل ذلك، ولأنه نصب نفسه للانتصار للفلسفة والفلاسفة، ولأنه عني ينقض (تهافت الفلاسفة) للغزالي من أساسه، تراه يقف موقفين في هذا السبيل:
(أ) يقف مع ابن سينا، ضد الغزالي حين يراه متفقاً معه في الرأي، أو حين يراه قد صدر عن فلسفة أرسطوا الحقة بعبارة أُخرى؛ فهو حينئذ قد يضيف لمذهب (ابن سينا) سنداً جديداً، أو يجليه بشيء من الإيضاح لعباراته، والتفصيل لبعض ما يجمله.
(ب) ومن جهة أُخرى، حين يرى (ابن سينا) خالف المعلم الأول، فابتدع ما لم يذهب إليه، نراه ينعى عليه هذا ويلومه بشدة من أجله، مبيناً أنه بصنيعه أتاح الفرصة للغزالي لمهاجمة الفلاسفة بعامة، بينما ابن سينا ـ أو هو الفارابي معه أحياناً ـ هو الذي يستأهل الرد وحده، وقد يلومه أحياناً أُخرى، لا لأنه ذهب إلى رأي باطل، بل لأنه صرح برأي لا يصح التصريح به للعامة، وإن كان حقاً في نفسه، كما في مسألة المعجزات التي لم يتكلم فيها القدماء مع انتشارها، لأنها من مبادئ الشريعة التي يجب أن يعاقب الفاحص عنها والمشكك فيها (1).
إذاً، لا عجب إن رأينا شدة من فيلسوف قرطبة على الشيخ الرئيس، في هذه
ــــــــــ
(1) أنظر تهافت التهافت في مواضع كثيرة، ص514، 527.