/ صفحة 155 /
على أننا لو أخذنا في تحليل نفوس المتجبرين، والكشف عن بواطن المستبدين، لوجدنا أن شر تجبرهم، ومبعث عتوهم في الغالب نفوس مريضة، أحتواها مركب النقص، واستولى عليها الحقد، فآثرت أن تلتمس لها شفاء في الطغيان، وتبحث لنا عن ستر لنقصها في العتو وعدم الاتزان.
كثيراً ما يقولون إن الشرق مريض بداء الاستهتار بالدين. ولو أنصفوا فردوا الأمور إلى أسبابها، والعلل إلى منابعها، لقالوا إن هذا إلا ثمرة من ثمار سياسة المستبدين، ونبيجة من نتائح الطغاة المفسدين، لذلك سلك الأنبياء (عليهم السلام) ـ وكلهم من الشرق وفي الشرق ـ سلكوا أول ما سلكوا في إنقاذ أممهم من شقائها والنهوض بها من كبوتها والخروج بها من ركودها، أن فكوا العقول من تعظيم غير الله، والإذعان لسواه، ولذلك بتقوية شعور الإيمان المفطور عليه وجدان كل إنسان.
ثم بعد إطلاق العقول من عقالها، صاروا ينظرون إلى الإنسان بأنه مكلف بقانون الإنسانية، مطالب بجميل الأخلاق والواجبات الإجتماعية، فهدموا بذلك حصون المتجبرين، وسدوا منابع الفساد على المتعجرفين، فإن كل نبي ما جاء إلا ليحارب البغي والتسيطر، ويقاوم الفساد والتجبر.
وذلك لأن التجبر المشئوم يؤثر على الأجسام فيورثها الأسقام، ويسطو على النفوس فيجعلها فريسة للآلام، ويعصف بالقوى فيمنع نماءها، وبالكفايات فيقتلها في مهادها، وبالعمران فيقوض من أركانه، وبالعدل فيهد من بنيانه.
وتعيش الجماعات في ظلال الطغاة الباغين عيش الأشجار الطبيعية في غاباتها، والأحراش المتكاثفة المعبرة في منابتها، يسطو عليها الحرق والغرق، وتحطمها العواصف والأنواء، وتقصفها الأيدي والأقدام، ويتصرف في فسائلها وفروعها الحاطب الأعمى، والخابط الأعشى، فتعيش ما شاءت لها رحمة الحطابين أن تعيش، وإنما الخيار للصدفة والأقدار في أن تظل معوجة أو مستقيمة، مثمرة أو عقيمة.