/ صفحة 64 /
رجاله، هواننا لا نصدر في خصوماتنا عن بينة أو قاعدة صحيحة، إننا نرى رجال هذا المذهب أو تلك المقالة مثلا يعتقدون أن الحق كل الحق فيما هم عليه وحده. وأن معتقد الآخرين كله باطل، ولا يكلفون أنفسهم بحث ما عليه هؤلاء الأغيار ليتعرفوا صحيحه من فاسده، وحقه من باطله، بل يحرمون ذلك تحريماً باتاً. ولو فعلوا لتبينوا أن كثيراً من المسائل يجب أن تكون موضع اتفاق فيما بينهم، لأن الحق جذاب لا تعمى عنه الأفئدة، وإن تعامت عنه الأبصار، ولو فعلوا، لعلموا أنهم كانوا من المسرفين في عداوتهم، المتجنين على الحق في خصوماتهم، ولأمكنهم أن يضيقوا شقة الخلاف يوما بعد يوم، وفي ذلك الخير الكثير.
هذا، وإن بعض من اتصلوا بالدين ودراساته، ولا نقول من سواد الشعب أو عامة المتعلمين، يعادون هذا المذهب أو ذاك من مذاهب الفقه أو علم الكلام استجابة لعقيدة جاءتهم بالبيئة والوراثة، لا لرأي نتيجة التفكير المتزن السليم، ولو أردتَ الواحد من هؤلاء من أنصار هذا المذهب الذي يتعصب له كل التعصب على أن يذكر أسباب ما يرى، لعجز أيما عجز، أو لرأيته جاهلا بمذهب مخالفه وبأسانيده جهلا غير معذور!
ومثال آخر: أن كثيراً من العامة وأشباه العامة في العلم يرون فر بعض فلاسفة الإسلام، مع أنهم لا يكادون يعرفون شيئا من آراء هؤلاء المفكرين ومذاهبهم الفلسفية! غاية الأمر أنهم لقنوا أنه كان لهؤلاء الفلاسفة آراء خارجة عن الدين، واستناموا لذلك واستمرأوا الراحة، ولم يعنوا ببحث هذه الآراء والكشف عما يكون فيها من حق وما يكون فيها من باطل لا يتفق وما جاء به الوحي! ولوانصفوا الحق وكرامة العلماء لرجعوا إلى القاعدة التي فرضها على نفسه حجة الإسلام الإمام الغزالي، حين أقام نفسه حاميا للدين ومدافعا عن الإسلام ضد ما تسرب إليه من الفلسفة الإغريقية بصنيع فلاسفة الإسلام مما لا يتفق في رأيه والدين الحنيف، هذه القاعدة هي ما صدر بها كتابه (مقاصد الفلاسفة) إذ يقول: