/ صفحة 438/
فقال علي: دعوه، أنا حميله، فلم يحاول في كل هذا أن يفرض ما آل إليه من الخلافة على الناس، بل أراد أن يبايعه من يبايعه عن طواعية واختيار، ومن أبي أن يبايع تركه حراً، حتى لا يحدث انقساما بين المسلمين، فأما أخذه معاوية بما أخذه به فلأنه أبي أن يقبل ما أمر به من عزله عن ولاية الشام، وهو حق من حقوق الخليفة، على معاوية وغيره أن يطيعوه فيه، فإذا لم يطيعوه خرج أمرهم عن حد الخلاف في الرأي إلى حد العصيان، وحكم العصيان غير حكم الخلاف في الرأي، لأن العصيان فرقة بين المسلمين، فيجب أن يؤخذ بما يجمع الكلمة، ولو أدى هذا إلى استعمال الشدة.
وقد كان هذا شأنه أيضاً مع من خالفه مع من أصحابه في مسألة التحكيم بينه وبين معاوية، وقد اعتزلوه وحكموا بما حكموا به عليه لقبوله ذلك التحكيم، مع أنه لا شيء في قبوله من جهة الدين، ولكنهم كانوا قوماً متنطعين متشددين في دينهم، فلم يحكم علي عليهم بما حكموا به عليه، بل قال لهم: ان لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدءونا.
وليس بعد هذا تسامح في الرأي، بل هو المثل الأعلى في التسامح، ولكنه كان مع قوم متنطعين في دينهم، لا يعرفون فضل التسامح عند الخلاف في الرأي، بل يأبون الا أن يجعلوه وسيلة تقاطع وتدابر، فأصروا على تدابرهم وتقاطعهم، وأبوا الا التمادي في غيهم، فسلطوا عليه عبد الرحمن بن ملجم فطعنه غيلة، وقد جمع على أولاده قبل أن تفيض روحه، فأمرهم أن يطيبوا طعام قاتله، ويلينوا فراشه، فان يعش فهو ولى دمه، عفو أو قصاص، وان يمت ألحقوه به ليخاصمه عند ربه، ثم نهاهم أن يعتدوا عليه أو يمثلوا به، وانه ليمضى في ذلك الانصاف لمن يخالفه مع طعنه له هذه الطعنة القاتلة، فيوصى بتطبيب طعامه، ويوصى بالانه فراشه، ويوصى بعدم التمثيل به عند قتله به، ليكون لنا في حياته ومماته أعلى مثل في الجمع بين الاستمساك بالرأي وانصاف المخالف، فرحمه الله من امام للمنصفين في الخلاف، وقدوة للمتسامحين في الدين.