/ صفحة 188 /
وكل سكان السودان تقريباً من أبنائه، وليس فيهم من الأجانب إلا نحو خمسة وعشرين ألفا معظمهم من الهنود واليمنيين والأحباش، وقليل منهم من الأوربيين، هذا بالإضافة إلى عناصر أخرى إفريقية هي عناصر(الفَلاَّتة) و(البرقو) الذين يفدون إلى السودان من الغرب: من نيجريا وإفريقية الاستوائية الفرنسية، ولا رقيب عليهم ولا ضابط لعددهم، فسياسة حكومة السودان أن تشجع هذه العناصر لا على الدخول إلى البلاد فحسب بل على الاستقرار فيها.
تمر هذه العناصر بالسودان في طريقها إلى الحجاز لتأدية فريضة الحج سعياً على الأقدام، أوعلى ظهور الدواب، وتنتقل في قوافل صغيرة تتكون في معظمها من عائلة أو عائلتين، ولا يهمها الوقت بقدر ما يهمها الحصول على القوت، وماذا عليها لو قطعت الرحلة إلى مكة في سنوات؟! وما ضرها لو عادت منها إلى أوطانها في سنوات أخرى؟! ويجد هؤلاء الحجاج في السودان عملا يدر عليهم المال اللازم لرحلتهم، وما أكثر الأعمال في السودان خصوصا في أرض الجزيرة، حيث يزرع القطن وهو محصول يتطلب من الأيدي العاملة المدربة العدد الوفير، وأبناء الغرب فيما يقال ذوو مهارة في الزراعة، وذوو جلد على القيام بعملياتها.
ويجد (الغرباء) ـ وهكذا يسمون في السودان ـ تشجيعاً من الحكومة وعطفا فيقيمون ويستقرون، وكثير منهم يعزف عن العودة إلى بلده، ويتخذ من السودان وطنا ثانيا، ولكن السوداني الأصيل يأبى أن يختلط بهذا (الفَلاَّني) المتوطن، فيتركه يحيا منعزلا في (حلته) محتفظاً بلغته وعاداته، وهيهات أن يسمح له بالاشتراك في مناسباته الاجتماعية، وهيهات أن ينظر إليه كمواطن، بل إنه ليخشى مزاحمته ويود له لو عملت الحكومة على إقامة سد أمام هذه الهجرات. وقد يكون السوداني على حق فيما ذهب إليه، ففتح الباب على مصراعيه بهذا الشكل يؤدي إلى قيام مجتمع غير متماسك يحوي عناصر متباينة لا يمكن أن تحيا في سلام دائم.
وهكذا نشأت في أراضي الجزيرة قرى الفلاتة المنعزلة، يحكمها مشايخ منهم وسلاطين. وقد زرت واحدة منها بالقرب من (سنار) هي حلة (مايرنو)،