/ صفحة 152 /
وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم).
ذلك لأنه كتاب جاء لدعوة الخواص والعوام، وطبائع العوام تنبوفي أكثر الأمر عن إدراك الحقائق الدقيقة، والمرامي السامية، والحكم العالية، فمن ثم خاطبهم بالحق الصريح، وبما يستطيعون إدراكه من سهل العبارات، وواضح الأدلة، وشائع البراهين، حتى لا يثقل كاهلهم، ويكلفهم بما هو فوق طاقتهم، وهو يقول جل ثناؤه (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).
أما الخواص، فقد خاطبهم بالدقيق من المعاني، والعميق من الأسرار، والعالي من الحكم، مما يجدون فيه مجالا للتدريب العقلي، والمرانة الذهنية، ولذلك قال تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم (ولم يقل الراسخون في الدين، لأن العلم أهل وأشمل، ومن رحمة الله أنه جعل في الدين مجالا لبحث العقول، وميداناً لجولان الأفهام، حتى لا تعتاد الخمول والكسل، والركود والجمود. فان هذا يستلزم البحث في الأدلة الكونية، والبراهين العقلية، والكشف عن طرق الخطاب ووجوه الدلالة، فتسموا إلى أسرار الكون، وتسبح في عجائب الآيات، حيث الإيمان الصحيح، واليقين الثابت، الاطمئنان القلبي، والسكون النفسي، (قل انظروا ما ذا في السموات والأرض) (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
فلوكان كل ما ورد في القرآن الكريم واضحاً لا عمق فيه، بيّناً لا سرّ فيه، جلياً عند الأذكياء والبلداء، صريحا للخاصة والعامة، لكان ديناً راكداً خالياً من الحيوية، فاقداً لجلال السمو، وروعة القدسية، محروما من المعاني العالية، والحكم الدقيقة، فضلا عما في ذلك من تعطيل للعقول، وأسر للتفكير، وشل للأفهام.
فجعل الدين للعلماء ميادين يصولون فيها، وآفاقا واسعة يجولون في جنباتها، بحثا وراء الحقيقة المستسرة يكشفونها، وجرياً وراء الأسرار البعيدة يتصيدونها، وجعل للعوام حدوداً يقفون عندها، ومعالم ينتهون إليها، حتى إذا ما غُمّ عليهم