/ صفحة 149 /
إما اتباعهم للمبادئ الأوروبية من غير نظر إلى مقاصد الشريعة كما فعل مصطفى كمال في تركيا. وإما الوقوف من غير إعطاء حكم، وفي كليهما ضرر بليغ.
إن كل نظام تشريعي يلزم لبقائه شيئان: قواعد ثابتة كقول الشريعة (لا ضَررَ ولا ضِرَار) تركِّزُه وتثبته، وقواعد متموجة مرنة، يستطيع بها أن يواجه الأحداث الجديدة، وفي الإسلام هذان النوعان، ففيه القواعد الثابتة التي نسميها مقاصد الشريعة كحفظ النوع والجنس والمال، وفيه القواعد المرنة، كرعاية المصالح المرسلة عن طريق النظر والاجتهاد، وبدونهما أو أحدهما لا تستطيع شريعة أن تبقى.
وقد قرأنا أن أبا حنيفة رحمه الله كان يقول: إذا غصب رجل ثوباً وصبغة بالسواد فقد أدخل نَقصاً على قيمة المغصوب، فلما جاء تلميذه أبو يوسف، وكانت الحالة قد تغيرت واتخذ العباسيون السواد شعاراً رسمياً، أفتى بأن الصبغ بالسواد يزيد قيمة المغصوب وليس الأمر تغير الحكم ولكم الأمر تغير الظروف، وكان الفقهاء الأقدمون يفتون بأن من رأى حجرة في بيت دون سائر حجراته سقط عنه خيار الرؤية، لأن الحجرات في البيوت كانت تبني بشكل واحد، فلما جاءت المدنية الحديثة واختلفت هندسة الحجر كان من مقتضى ذلك أن من رأى حجرة في بيت لا يسقط عنه خيار الرؤية وهكذا.
وبالأمس كنت أقرأ في كتاب الهوامل والشوامل، فرأيت فيه أن أبا حيان التوحيدي سأل مسكويه عن السبب في أن المسألة الواحدة يفتى فيها مُفتِ بتحليلها، وآخر بتحريمها، فأجاب مسكويه: بأن العبرة باختلاف الزمان أو المكان، وأن الاجتهاد يواجه ذلك، قال: على أن الاجتهاد في نفسه تمرين للعقل بدليل أن ملكا من الملوك لو أراد أن يلعب بالكرة والصولجان ما أهمنا نجح في اللعب أولم ينجح مادام قد مرّن أعضاءه، والحكيم إذا خبأ الشيء وطلب من الناس أن يبحثوا عنه، فسواء وجدوه أولم يجدوه فقد حقق الغرض، والمشتغلون بالظريات الهندسية والرياضية يكفيهم ما بذلوا من جهد في حلها سواء أصابوا أم أخطأوا.
وعلي الجملة لا ينقذ المسلمين إلا فتح باب الاجتهاد الذي أغلقوه، فضيقوا على أنفسهم واسعا.