/ صفحه 74/
التي تختلج بها صدورهم، فهم مدفوعون إلى ما يقولون بدوافع ذاتية نفسية غير متكلفة، لا يصدرون فيها عن رغبة ولا رهبة، ولا يقدرون لها مواقعها عند الناس من رضي أو سخط، والقائل إذا كان بهذه المثابة كان مثله كمثل الطائر الغرّيد. يشدو على فننه، لأنه أراد أن يشدو، لا ليطرب السامعين، ولذلك تجد شعرهم يمتاز بالصدق, كما يمتاز بالقوة، ويحسب عند النقاد وجهابذه الأدب من شعر الفطرة لامن شعر الصنعة، وتراه يدور أبدا مع خلال الشرف وصفات النبل حيثما دارت.
استمع إلى قطري هذا وهو يقول مخاطبا نفسه:
من الأبطال ويحك لن تراعي أقول لها وقد طارت شعاعا
على الأجل الذي لك لم تطاعي فإنك لو سألت بقاء يوم
فما نيل اخلود بمستطاع فصبرا في مجال الموت صبرا

فهو لم يزعم كم زعم أهل الفخر بالشاجعة والقوة: أنه لا يعرف الروع، ولا يعرف الروع إلى نفسه سبيلا، وإنما اعترف ـ على الفطرة ـ بأن نفسه عند ما رأت الأبطال وتقارعهم بالسيوف في حومة الوغي، طارت شعاعا، وهذه عادة بشرية ينصت ذلي دو اعيها الجبان الفروقة فيستطار لبُّه، فلا يلبث أن يولي الأقران دبره فرارا وهلعا، ويقاومها الشجاع الثبت فيصبر على لظاها، وينهي النفس عن هواها، ثم يذكر لنا قضية الإيمان الذي ملأ نفسه، وذسعفه في حجاجها: أيمان المؤمن بأن عمره محدود، لا زيادة فيه، إيمان العاقل الذي يعلم أن نيل الخلود غير مستطاع، وأن الصبر في مجال الموت خير درع لمن أراد الدراع.
وقطري هذا هو الذي يقول أيضاً لمبارز له:
أساقك بالموت الذّعاف المقشَّبا ألا أيها الباغي البراز تقربن
على شاربه، فاسقني منه واشربا فما في تساقي الموت في الحرب سبة