/ صفحه 426/
وأول الخوانك بمصر ـ على قول المقريزى ـ خانكا سعيد السعداء، التي وقفها صلاح الدين الأيوبى للوافدين على مصر من فقراء الصوفية ورتب لهم فيها الطعام واللحم والخبز. وبلغ عدة من بها في بعض الأوقات قرابة ثلمثمائة صوفي. أما الحتفالهام التقليدى بصلاة الجمعة وخروج موكهبم الرسمى من الخانكاه إلى جامع الحاكم وعودتهم منه، فيقول المقريزى عنه: إنه من أجمل عوايد القاهرة. ثم أنشاً الظاهر بيبرس خانكاه أخرى نزل بها حوالى أربعمائة صوفي، ثم تتابع إنشاء الخوانك حتّى زاد ماذكره المقريزى في خططه عن العشرين، منها واحدة أنشأتها الخاتون طوغاى زوج السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وأنزلت بها بعض جواريها، وقررت لهن المعاليم والأرزاق. وقامت تلك الخوانك بوظيفة المدارس في بعض الأحيان، وعمرت قاعاتها بدراسة الفقه والحديث وقراءة القرآن طالما كانت أوقافها بعيدة عن أيد الناهبين من الأمراء والسلاطين ومن اليهم.
أما الأربطة فيمعرفها المقريزى بأنها الدور التي يسكنها أهل الطريق ويقول: "و شرائط سكان الرباط قطع المعاملة مع الخلق، وفتح المعاملة مع الحق، وترك الاكتساب الكتفاء بكفالة مسبب الأسباب، وحبس النفس عن المخالطات واجتناب التبعات، ومواصله الليل بالنهار بالعبادة، متعوضاً بها عن كل عادة، والاشتغال بحفظ الأوقات، وملازمة الأوراد، وانتظار الصلوات، واجتناب الغفلات، ليكون بذلك مرابطا مجاهداً".
ولا شك أن حياة الزهاد بتلك المؤسسات، هى رهبانية لا يقرها الإسلام الذي يأمر بالسعى والجد، وينهى عن القعود والتواكل. ولكن من يستطيع أن ينكر تأثر المسلمين بما حولهم مما ابتدعته الأديان السابقة! وفى اعتقادى أن الخوانك والأربطة، تطورُ عن الأديرة المسيحية، ولعل كثرة إنشائها في العصور الوسطي، راجعةإلى ماخلفه الصليبيون بالشرق أثناء كفاحهم الطويل للاستيلاء على بيت المقدس وما حوله. على أنه لا حيلة لنا في دفع هذا التأثر، لأن سنة الحياة أن يتأئر الكائن بغيره، ويؤثر في غيره.
ويذكر المقريزى في خططه اثنى عشر رباطا، أشهرها رباط الست البغدادية أنشأته ابنة الظاهر بيبرس للنساء اللاتى طلقن أو هجرن حتّى يتزوجن أو يرجعن إلى أزواجهن صيانة لهن، لما كان فيه من شدة الضبط، والمواظبة على وظائف العبادات وغاية الاحتراز، "حتّى ان خادمة الفقيرات به، كانت لا تمكن أحداًمن استعمال إبريق ببزبوز، وتؤدب من خرج عن الطريق بما تراه".
ومن منشأ ذلك االعهد كذلك الخانات، وهى فنادق ينزل بها الغرباء والمسافرون ومن لا مأوى لهم من الفقراء وأبناء السبيل، ومن أمثلة ذلك خان السبيل الذي أنشأه بهاء الدين قراقوش، وجعله نزلا بغير أجرة لأبناء السبيل والمسافرين، وجهزه بما يكفل لهم وسائل الراحة.
والدراس للتاريخ المصرى أو التاريخ الإسلامى في العصور الوسطى بوجه عام يجد نفسه أمام تورات اجتماعية ناضجة لم يشهدها ذلك الركن من العالم من قبل. ولا شك أن وقوع هذه المنطقة في قلب العالم النابض، جعلها شديدة التأثر بغيرها، كما جعلها في نفس الوقت شديدة التأثير في غيرها، وأن مامر بها من أزمات وحروب متكررة وإغرات مفجئة أكسبها سرعة التكلييف للظروف الطارئة، والاستجابه لحاجاتها الجديدة، وإذا كانت إغرات المغول من الشرق، وحملات الصليبيين من الغرب قد أفقدتا الشرق الاسلامى أشياء كثيرة، فقد أخرجته تلك الهزة العنيفة من عزلته، وأزاحت عن جفونه النوم الذي غط فيه فترة طويلة.
أما حظ مصر من تلك الهزة فكان أحسن من حظ غيرها لأسباب أهمها أن تلك الأحداث حدثت وبها دولة قوية لا يتمتع بمثلها أحد من جيرانها من الدول الإسلامية، هذا فضلا عن أنها لم تصب بشيء من تخريب المغول، ولم تتعرض لشر يذكر من حملات الصليبيين. وقد أتاح ذلك لمصر أن تخرج من عهد الفاطميين والأيوبيين والمماليك دولة منظمة مرتبة في أحوالها الاجتماعية والإدارية والتعليمية، وأن تخلف تراثاُ ضخما صالحاُ لأن يكون غذاء طيبا لأجيال خالفة إذا ما رعاه القوامون عليه بالدرس والبحث والنشر؟