/ صفحه 408/
مروانيين، ثم عباسيين؛ وخلوّ أيديهم من ذلك الفيء!
وكلا النسقين في أسلوب الكميت ودعبل، نسق شعرى بالغ الجودة، رائع الأداء، ينبض حركة، ويسمو روحا.
فأما مروان، فقد مضى بلاميته مُدَوِّيَة رائعة، ساحرة، حتّى إذا انتهى إلى الاحتجاج، خرج بها إلى الفقه! فأسفَّ وسَفْسَفَ، معنى وأسلوبا، وفقد كل أثر شعرى كانت تزخر به قصيدته قبل ذلك. ولكى تلمس اختلاف النسق واضحا، أروى لك ما سبق الحتجاج، فليس بعد العِيان بيان، قال:
سُننَ النبي: حرامَها وحلالَها أحيا أميرُ المؤمنين محمدُ
مدَّ الإلهُ على الأنام ظلالهَا ملك تفرّع من ذؤابة هاشم
من صَرْفِهن لكل حال حالهَا ثَبت على زَلَلِ الحوادث راكب
للمسلمين، وللعدوّ وبالها كلتا يديك جعلْتَ فضلَ نوالها
بأكفكم أم تسترون هلالها؟ هل تطمسون من السماء نجومها
جبريل بلغها النبَّى فقالها؟ أم تجحدون مقالة من ربكم
بترائهم، فاردتمو إبطالها شهدت من الأنفال آخر آية
أنظر كيف هبط الشعر هبوطاً واظحا في البيتين الأخيرين؛ هبط في المعنى، إذ هو معنى علمى جاف، وهبط في اللفظ، فأسلوبه أسلوب مفك مضطرب الضمائر، قافيته "إبطالها" وهى كلمة فقيه، لا كلمة شاعر! ثم أى أية لم يبلغها جبريلُ النبى فيقولها، حتّى يحتاج الناس إلى أن بعرفوا أن جبريل بلغها النبي، وأن النبى قالها، إننا نعرف أن جبريل بلغ النبى كل آية، وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد بلغها! وقالها!
أما أبياته في القصيدة الأخرى، فهى مسألة من "مسائل علم الميراث". وما أهوان الخلافة إذا دخلت في "علم الميراث". وصلى الله وسلم على من قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث".
وعلى الجملة: إن شعراء الشيعة يدلون بطابع النبوة الذي يميز الطالبيين، وهذا من صنع السماء؛ أما غيرهم فيطبق أحكام الفقه، وهى من صنع الأرض. وأين الأرض من السماء؟!
ومن أروع المثل على ذلك؟ ما رواة أبو الفرج الأصبهانى في ترجمة يحى إبن عمر بن الحسين بن على رضى الله عنهم، الخارج في أيام المستعين العباسي، قال:
طريقان شتي: مستقيم وأعوجُ أما مَك فنظر أى نهجيك تنهجُ؟
بآل رسول الله فاختشَوا أوارتُجوا ألا أيُّهذا الناس طال ضراركم
قتيل زكى بالدماء مضرج؟!(1) أفى كل يوم للنبى محمد
و كان رضى الله عنه رجلا فارسا شجاعا، شديد البدن، مجتمع القلب، بعيداً عن رهق الشباب، وما يعاب به مثله؛ وكان مقيما ببغداد... وكان له عمود حديد ثقيل، فربما سخط على العبد أو الأمة من حشمه، فيلوى العمود في عنقه، فلا يقدر أحد أن يحله عنه حتّى يحله يحيى رضى الله عنه ... قال: وما بلغنى أن كثيراًممن قتل في الدولة العباسية من آل أبى طالب رثى بأكثر مما رثى به يحيى بن عمر، ولا قيل فيه كبعض مما قيل فيه. واتفق في وقت مقتله عدة شعراء مجيدون للقول في هذا المذهب، إلا أنى ذكرت بعض ذلك كراهية الإطالة. فمنه قول علي بن العباس الرومى يرثيه، وهى من مختار ما رثى به بل، إن قلت أنها عين ذلك، والمنظور إليه لم تكن مبعدا، لولا
أنه أفسدها بأن جاوز الحد، وأغرق في القذع، وتعدى المقدار، بسب مواليه من بنى العباس، وقوله فهيم من الباطل ما لا يجوز لأحد أن يقوله، وهي: