/ صفحه 395/
الحروب الحديثة وأسلحتها السرية الفتاكة. وظل فرنسيس يتقلب في معسكر المسلمين بضعة أيام حتى قرر الرحيل، فرده الكامل محروساً إلى أطراف معسكر الصليبيين ورجع فرنسيس إلى أصحابه ليخبرهم بما شهد وسمع من أحوال المسلمين وسلطانهم ولينذرهم بما عساه يتطوّر إليه مشروع الزحف من دمياط إلى القاهرة، وليكرر عليهم فوائد عروض السلطان الكامل لكنه وجدانية منعقدة على الحرب، وهى عكس ما أراد أن يسهم به، فاقتنع بألا مصلحة في مقامه، ونفض تراب المعسكر الصليبى عن قدميه ـ على قول التعبير المجازى الأوربى ـ ويمم نحو الشام وفلسطين بإذن من السلطان الكامل، حيث أقام بضع سنوات ليؤسس للإخوان الفرنسسكانيين نواة أعمالهم في سدانة كنيسة القيامة ببيت المقدس.
وفى أواسط سنة 1221 م، والنيل على وشك الامتلاء بمياه الفيضان السنوى المبارك، تحرك الصليبيون من دمياط، حسبما انعقدت عليه نياتهم البليدة، لأنهم لم يصلوا إلى قرار هم هذا إلا بعد ثمانية عشر شهرا من تفكيرهم فيه. وقبالة القوات الصليبية في البر والبحر تمهيداً لدفع المسلمين إلى الوراء، وإزالتهم عن الطريق نحو القاهرة. ولم يكن يفصل بينهم وبين المسلمين سوى هذا البحر الذي سمى "البحر الصغير" فيما بعد. وبدا جيش السلطان الكامل أحسن مكانا وإمكانا وجمعاً واستعداداً من ذى قبل عند المنزلة العادلية قبالة بورة، فإن الأرض التي سوف يلتحم عليها الفريقان ذات قنوات وترع كثيرة يعرفها المسلمون ولا يعرفها الصليبيون، والجيش الأيوبى خلو من المؤامرات والدسائس التي أقلقت الكامل قبلا وأضعفت محاولاته لإنقاذ دمياط، وأبناء البيت الأيوبى من إخوة الكامل وأقرابه صاروا إلى جانبه بنجداتهم. ثم التحم الفريقان واشتد القتال بينهما، وقامت البحرية الأيوبية النيلية بدور هام، إذ استولت على بضع سفن صليبية كبيرة آتية بالمؤونة وأدوات القاتل من دمياط، وأسرت معظم رجالها. وأبحر عدد من السفن الأيوبية في بحر المحلة، وهو فرع قديم كان يخرج وقتذاك من النيل قرب بنها، ويلتقى به شمالى طلخا الحالية. أى قبالة ميدان القتال بين الصليبيين والمسلمين، فحالت هذه السقن بين الصليبيين وما سوف يهبط إليهم من التجدات عن طريق انيل من دمياط. ثم أمر الكامل بقطع جسر النيل شمالى طلخا، فضلا عن الجسر الفاصل بين انيل وبحر المحلة، ففاض الماءوركب مساحة شاسعة من الأرض شمالى مواضع الصليبيين، فصارت هذه المساحة المائية على جانبى النيل حائلا بينهم وبين دمياط، ماعدا طريق ضيق عند أشموم طناح سدّه الكامل كذلك بعدد من عساكره. هكذا انحصر الصليبيون، وذهبت آمالهم في الزحف جنوباً نحو القاهرة، ولم يبق لهم محيص إلا أن يشقوا لأنفسهم طريقاً شمالا نحو قاعدتهم في ديماط، فأحرقوا خيامهم ومجانيقهم وسائر أثقالهم، واهتبلوا فرصة المستميت للانسحاب في جنح الظلام، لعلهم واجدون لأنفسهم مخرجا في سواد اليل، فحال الماء والعسكر بينهم وبين مقصدهم، ولم يلبثوا أن أدركوا يأس موقفهم.
عند ذلك ـ وليس قبله ـ انقلب الصليبيون إلى عروض السلطان الكامل يرجون السماح لهم بالعودة إلى دمياط للجلاء عنها في غير قيد أو شرط أو مساومة، وذلك بعد أن طلبوا الأمان. وعقد السلطان مشوراً لتقليل الرأى فيما تبغى الإجابة به على الصليبيين، فأشار عليه بعض قادته وأهله من البيت الأيوبى أن يخلّى بين الصليبيين ومأزقهم حتى تنفد أقواتهم وقواتهم، فتتفشى بينهم المجاعة ويأكل بعضهم بعضا، أويأ كلهم الطاعون. أشار بعض آخر بإعطاء الصليبيين الأمان، من باب العفو عند المقدرة، وإن كان هذا من غير المألوف في أبواب السلوك عنده قادة الحروب في كل العصور. وبرهن الكامل على أنه منطقى مع نفسه ـ وتللك صفة من الصفات التي لم تذكرها كتب التراجم، حين مال كل الميل إلى الرأى الثاني، وهو على أية حال رأيه الأصيل منذ مجيء الصليبيين إلى الشواطى المصرية. ثم إنه رأى أن اكتساب معركة ديبلوماسية أجدى عليه من ظفر بمعركة حربية، ربما أعقبتها هزيمة على يدنجدات أوربية علم الكامل باحتمال وصولها، قبل أن ينتهى موسم القتال. ولذا بعث إلى الصليبيين يخبرهم بأمانه واستعداده لجلائهم آخر الأمر عن دمياط، ودخلت الجيوش الأيوبية دمياط أواسط سنة 1221م، بعد أن جلا الصليبيون عن الأراضى المصرية وسواحلها جلاء ناجزاً لا عوج فيه ولا تسويف أو تزييف، دون استهتاربكرامة الصليبيين، أو إهدار لحقوق أمانهم العام. واتفق الفريقان بعد هذا على هدنة مدتها ثمانية أعوام، وعلى أن يطلق كل منهما طوائف الأسرى عنده. هكذا انتهت الحملة الصليبية المعروفة بالخامسة في تاريخ تلك الحروب.
وتسامع الشرق والغرب بأخبار هذه الحملة التي هدفت إلى إصابة المسلمين