/ صفحه 382/
ولو أن فقهاء المسلمين في العصور المتأخرة قد أذعنوا للأمر الواقع وبينوا كثيراً من الفروع الفقهية متأثرين فيها بالناحية العملية، فإن ذلك لا يمنع من تقرير المباديء العامة التي أسلفناها.
ولست الآن بصدد الحديث عن نظام الحكم في الإسلام، وهل هو من أمر الدين أم من أمرالدينا، فإنى أعتقد أنه جدل لفظي، أو خلاف في حال، كما يقول سادتنا العلماء في اصطلاحاتهم.
فالمهم الآن ـ ولو تاريخيا ـ أن ثمت نظاماً للحكم أقره المشرع الإسلامى على نمط أو آخرمن طرق التشريع، وكان الأساس فيه هو الشوري، حتّى في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام.
والذي شدا طرفا من أصول الفقه يعرف البحث المشهور في جواز اجتهاد الرسول (عليه السلام) ومداه، وفى أى الأشياء يحصل، ومهما يكن من شيء، فقد ثبت أن الرسول (عليه السلام) استثسار أصحابه في كثير مما يسمى الآن من أمور الدولة، كأمر الأسارى في بدر، وقصة الخندق، وصلح الحدبية، وغير ذلك، وهذا أول مظهر ينفى الثيوقراطية عن نظام الحكم الإسلامى وعن القائم على أمر الدولة والتشريع في الإسلام.
وأمر آخر وراء هذا قد يكون أكثر أهمية في إثبات ما ذهبنا إليه في هذا الحديث وسابقه، ذلك أن الرسول (عليه السلام) لحق بالرفيق الأعلى ولم يترك نظاما معيناً لهذه الحكومة، ولم يدع وصية محدودة بشأنها، بل شاء بعد مشيئة الله ـ أن يدع هذا الأمر للمسلمين يقلبون فيه وجوه الرأي، ويحلون معضله كما يلائم طبيعة الجو الذي يعيشعون فيه، ليبين لهم أن ملاك هذا الأمر الشورى، واختيار أهلى الحل والعقد، وأن للمسلمين أن يبينوا تفاصيله في دستور مكتوب أو محفوظ، وأن يضعوا ما يرونه كفيلا باسعادهم وتقرير حكمهم على النمط الذي يرضى مزاجهم وعرفهم وتقاليدهم، من نظام دستورى وإدارى وغير ذلك، مادام ملتئما مع المباديء العامة التي جاء بها القرآن الكريم والسنة المطهرة. وقد رسما لهم الخطوط العامة لمعادهم ومعاشهم، وما على المسلمين إلا أن يفصلوا مجمل هذه الخطوط، ويبينوا في ذلك الفراغ ما يظنونه ملتئماً وحاجتهم ومصلحتهم، وأى نظام اختاره المسلمون على وفق الفكرة العامة التي رسمها المشرع فهو نظام مقبول، ودستور مرض، فإن وضع المسلمون دستوراً على أحدث النظم، لا يعارض شيئا مما نص المشرع عليه نصاً صرحياً لا تأويل فيه، فهو دستور محترم مقبول، مادام راه أهل الشوري، ويختار تفاصيله أهل الحل والعقد الذين يعرفون حكم الله في تحليه وتحريمه، ويعرفون أن ذلك الذي وضعوه يحقق المباديء الطبيعية، وحرية الفرد والجماعة التي يستمتع بها الإنسان كإنسان، وإلتى قررها الشارع الإسلامى في ألف موضع وموضع من تشريعه.
وتلك نقطة جديرة بالعناية أحب أن ألفت لها نظر الذين يقولون عن الحكومة الإسلامية إنها حكومة ثيوقراطية، فليس ثمت ـ عند التدقيق ـ فرق بينهم وبيننا، فواضعوا الدساتير على النظم الحديثة يضعونها متأثرين بما يقبسون من نظم ودساتير يرونها أرقى الدساتير، وهى لذلك جديرة بالاقتداء والتقليد، لأنها تحقق المثل العليا للديمقراطية، وهى عرضة للتغير على الطريق المرسوم متى جدما يستدعى تغيرها، ونحن نقول مثلهم: إن أى دستور يحقق مصلحة البلد على نظام شورى، فنحن نقبله إذا لم يكن فيه ما يصادم النص (المجمع عليه) ولا بد من التنبه لهذا القيد الذي وضعناه بين القوسين، وها هى ذى حكومة الباكستان، وهى من نعلم فتاء وقوة تريد ـ وقد أعلنت صراحة ـ أنها ستضع دستورها على أساس إسلامى خالص، وتريد أن تضع نظاماً مالياً إسلامياً خالصاً، وقد بدأت تستشير أهل العلم فيما انتوت، والنصوص التي أوجبنا مراعاتها نصوص قامت الأدلة على أنها جديرة بالتقدير لمصلحة الجماعة ومصلحة الفرد، وفوق ماعندنا من نصوص؛ عندنا سوابق من التاريخ متى رجعنا إليها ساعدتنا وأسعفتنا، فما الفرق بيننا وبينهم؟ هم يقولون لا بد أن يحقق الدستور حقوق الإنسان والحريات الطبيعية، ونحن نقول مثلهم على شكط أن تكون